أقلام حرة

أفندينا... لا زالت الدنيا بخير

 يتساوقون مع هذا اللقب فيتميزون بمشيتهم وطريقة تكلمهم  لدرجة أن الناس باتت تعرف الموظف حينما تقابله حتى ولو لم يكن مرتديا بزة العمل الرسمية.

أمتاز الموظفون الصغار غالبا بصدق التعامل ودقة المواعيد وتيسير أمور من يراجعهم وحرصهم على إعطاء الوظيفة حقها وكانوا متفانين مخلصين في عملهم ويبحثون عن كلمة الإطراء والمديح التي تعوضهم عن جهدهم الكبير الذي لا يلائم مقدار الراتب الذي يتقاضونه وكأن كلمة الثناء بسحرها الأخلاقي كانت تعوضهم عن هذا النقص في الجانب المادي.

مع مرور الأيام فقد الموظفون الصغار لقب الأفندي وكثير من المزايا الأخرى واحتفظوا بالإخلاص والراتب الذي لا يسد الرمق، ثم مع تزايد مطالب العائلة ومتطلبات الحياة العصرية وثبات الراتب تغيرت طباع بعضهم  سواء لأنهم كانوا يشعرون بالمظلومية أو بسبب تكاثر طلبات واحتياجات العائلة والأولاد فمن كان ملتزما منهم بحث عن عمل إضافي بعد الدوام الرسمي أو أقلم حياته مع حدود راتبه ليعيش حياة الكفاف، أما غيرهم فمدوا أيديهم  لما في ذمتهم من عهدة أو مدوها إلى جيب المواطن الذي هو الآخر مسكين ليأخذوا منه الشيء البسيط مقابل تسهيل أمر معاملته، ومع مصاعب أيام التقشف ثم الحصار الذي تزامن مع الارتفاع الجنوني بالأسعار أصبحت الرشوة وهدايا تمشية المعاملات والفساد المالي من أهم صفات الوظيفة، وسمة بارزة من سماتها. ثم لما حدث التغيير وفقد القانون وتنوعت الجهات المتنفذة وتكاثرت طرائق سرقة المال العام ولاسيما من قبل كبار الموظفين، تفشت ظاهرة الموظف غير النزيه وطغت على كل الصور الحلوة التي يحملها الفكر عن الموظفين وعالم الوظائف.

وفي زحمة هذا الحراك كانت هناك قلة قليلة من الموظفين الذين بقوا متمسكين بأخلاق الأفندي  وكانوا مثالا رائعا للحرص والتفاني في أداء الواجب الوظيفي على وجهه الأكمل غير آبهين لما يحدث حولهم من أهوال. ومن هؤلاء القلة رجل كبير في السن اسمه مهدي رشيد الهماشي  يشغل وظيفة أمين مكتبة واسط المركزية العامة. فهذا الرجل يفتح المكتبة لطلبة البكلوريا والجامعات أيام الامتحانات النهائية  ويحرص على توفير الراحة والهدوء لهم، ويبقيها مفتوحة على مسئوليته الشخصية لمدة أربعة وعشرين ساعة في اليوم وحينما ينقطع التيار الكهربائي يشغل لهم المولدة  ويشتري قوالب الثلج من السوق ليهيئ لهم ماء باردا ويجلب لهم من بيته الشاي والسكر والكليجة ويصنع الشاي بيده أكثر من مرة باليوم ليقدمه لهم مجانا ويجيب على أسئلتهم وإذا  لم يجد الجواب يعود إلى المصادر المتوفرة في المكتبة ليبحث عنه.

وحينما تسأله عن الدافع الذي يقف وراء عمله الرائع الذي يؤديه تطوعا يقول لك: إنهم أولادي وأحرص على توفير الأجواء الملائمة لهم  ليحصلوا على الدرجات التي تؤهلهم للانتقال إلى مراحل متقدمة في الحياة ليخدموا وطنهم ويسهموا في تقدمه، وهم إن جلسوا في دورهم لن يتمكنوا من القراءة بشكل جيد بسبب الحر والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي والضوضاء  وعدم توفر المصادر وعدم وجود من يسألونه عما يصعب عليهم فهمة من مواضيع.

وبعد هذا وذاك يجلس صباحا في مكتبه ليتناول طعام الإفطار الذي تجلبه له عائلته ليمارس عمله أمينا للمكتبة .

وأنا أراقب سلوك هذا الرجل وطيبته وإخلاصه وتفانيه في أداء الواجب تذكرت صاحبنا الأفندي الذي لم يعد له وجود في مجتمع هو بأمس الحاجة له اليوم من أي وقت آخر، وكم تمنيت لو أن أعضاء مجلس النواب والوزراء الذين يتركون القوانين مكدسة فوق الرفوف ليتمتعوا بعطلة الصيف أن يتعلموا من هذا الرجل معنى أن تخدم  من هم بحاجة لخدماتك لكي يتقدموا في الحياة دون أن تنتظر من أحد تقييما لأدائك أو جزاء أو شكورا، ولو حدث ذلك فعلا وتحول المسئولون المعاصرون إلى "أفندية" لما وصل العراق إلى ما هو عليه اليوم.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1437 الخميس 24/06/2010)

 

في المثقف اليوم