أقلام حرة

رفاهية مناضلين .. وشقاء شعب! .. تحليل سيكولوجي / قاسم حسين صالح

وان الشعب يكون مرتاحا حين يتخلص من نظام دكتاتوري ويصير في نظام ديمقراطي.

فلماذا حصلت هاتان الخسارتان .. خسارة مناضلين لأنفسهم وخسارة شعب لحاضره ومستقبله؟.هل الخلل في: المناضلين؟ الناس؟ طبيعة السلطة؟ المحتل؟.

الجواب، ان الخلل في هؤلاء الأربعة وان اختلف حجمه وشدّة تأثيره .. ولنبدأ بالمناضلين ولنتفق على تعريف المناضل بأنه كلّ من أشهر عداءه للنظام الكتاتوري السابق وعمل على اسقاطه بغض النظر عن النوايا المضمرة، وبعيدا عن الجدل بين من يرى أن هؤلاء ليسوا مناضلين بل عملاء، وآخر يرى انه ما كان بامكان المناضلين اسقاط النظام من دون التعاون مع قوة خارجية ضاربة .. وأن بعضهم اقنع تلك القوة وله في ذلك فضل تخليص شعبه من أعتى نظام دكتاتوري في التاريخ الحديث .. وأنه بهذه العملية الذكية والخطيرة يعدّ وطنيا استثنائيا وليس عميلا كما يفسّرون.

وبغض النظر عن هذا وذاك فان المعيار الحقيقي للمناضل هو أن يعمل لخدمة شعبه، وبدونها يفقد هذه الصفة الرفيعة .. فلنطبّق هذا المعيار على المناضلين العراقيين الذين استلموا السلطة .. والأصح: سلّمت لهم السلطة.

كانت أول "لقمة حرام" ابتلعوها أنهم احتلوا بيوت المسؤولين الكبار في النظام السابق، وتنعّموا بما كانوا يعدونه فسقا وفجورا. ولو أنهم أصدروا في حينها بيانا للناس عدّوا فيه هذه البيوت ملكا للدولة ودفعوا مستحقاتها، لما استفتحوا بها شهية الفاسدين والمفسدين ولما كان الفرهود بتلك الحالة المخزية. ومن البدء، عزلوا أنفسهم عن شعبهم وسكنوا في منطقة كل شيء فيها متوفر، وأولها نعمة الكهرباء. وصاروا يأكلون ما لذّ وطاب .. فاستطالت كروش وتدلت (لغالغ) .. وصار منظرهم يذكّر بمقولة " اذا رأيت سلطانا قد شبع بعد هزال فاعلم انه سرق". وجابوا دول العالم (مجانا) .. واشتروا (الفلل) في عواصم عربية واجنبية .. ومنحوا أنفسهم رواتب خيالية .. فالراتب الشهري لرئيس الجمهورية 75 مليون دينارا، ومثله لرئيس الوزراء .. عدا المخصصات والامتيازات، فيما المناضل الحاكم لا تسمح له مبادؤه أن يتقاضى راتبا اعلى من راتب حاكم دكتاتوري، لاسيما اذا كان ربع شعبه (الذي ناضل من أجله!) تحت خط الفقر ونصفه بطالة .. وكان على احدهما أن يبادر الى خفض راتبه ليكون قدوة وهو الذي يملك المليارات! .. كما يقولون.

وقد يهون الأمر لو أن المناضل التزم بمعيار "خدمة الناس"، لكنهم تركوا العراقيين يعيشون في محنة هم يصنعوها الآن ولا نية لديهم لمعالجتها .. وعشرات آلاف الخريجين من حملة البكلوريوس "عطّاله بطّاله"" وهم عنهم ساهون .. ومدن خربه، وقرى موبوءة .. وعاصمة كان الشعراء يتغنون بها لجمالها تحولت الى أخطر واوسخ مدينة بالعالم .. وسياسيون صريحون وآخرون بأقنعة مقاولين تحولوا الى (حراميه) في شبكة من حيتان وأسماك متنوعة الأحجام .. في أبشع وأجشع مافيا في تاريخ الفساد بالعراق الذي صار "بفضلهم" ثالث أفسد دولة بالعالم. ولا أظن أن أحدا يعترض على اسقاط صفة "مناضل"استلم السلطة وارتكب هذه "الجنايات" وانفرد بتحقيق مصالح شخصية خيالية .. وترك شعبه يشقى!.

والتحليال السيكولوجي لهذا النوع من المناضلين هو أن طبيعة شخصياتهم من الصنف الذي يتحكم به دافع السيطرة على الآخرين الذي يتعارض مع خدمة الناس الا بما يضمن بقاءه في السلطة .. وهو صنف خطر على الديمقراطية، لأن النظام الديمقراطي يؤمن بمبدأ التداول السلمي للسلطة .. فيما داخله السيكولوجي طارد له لأنه يدفعه نحو التمسك بالسلطة المؤدي حتما الى طغيانه فيها.

وهنالك فرق بين مناضل يعدّ اسقاط سلطة استبدادية غاية، وبين من يعدّ اسقاطها وسيلة لغاية أسمى هي خدمة شعب وازدهار وطن. ويبدو ان كثيرين منهم كانوا منضوين في معارضة، كانت معارضة من أجل نفسها اولا لا من أجل الناس كما ثبت لاحقا .وتبين أن بينهم من هو محبّ شهرة وظهور، ومن كان فاشلا دراسيا واجتماعيا أو معانيا من شعور حاد بالنقص، وأغربة سود تعلّمنا كيف ندفن أخوتنا ولا نتأسى عليهم .. فيما كشف فانوس أبليس السياسة عن عورات آخرين وأظهرهم للناس ربي كما خلقتني فخجل الناس عليهم وما خجلوا على أنفسهم!. ونرجو أن لا يؤخذ كلامنا هذا بصيغة التعميم، فكثير من السياسيين العراقيين مناضلون حقيقيون يستحقون التقدير والأعجاب، غير أن أغلبهم خارج السلطة .. والذين فيها قلّة جاءت في غير زمانها!

وكما للسياسيين رذائلهم فان للشعوب رذائلها ايضأ . فالشعب الألماني جاء بهتلر عبر انتخابات ديمقراطية .. وكذا فعل الشعب العراقي .فاذا كنّا نغفر للعراقيين انتخابهم لأعضاء برلمان 2005 (الطائفي، الارهابي، المتخلف)، لتحكّم سيكولوجيا الضحية بكل من جماهير الشيعة والكورد، وسيكولجيا الاحتماء بجماهير السّنة العرب، فانهم ارتكبوا الخطأ نفسه في انتخابهم لبرلمان 2010 لبقاء تحكّم العقل الانفعالي بهذا النوع من الجماهير التي (تفوّز) هذا وتخسّر ذاك .واذا كانت هذه الجماهير قد صدقّت بالسياسيين وضحّت من اجلهم عام 2005 في انفعالية مشروعه سيكولوجيا لطبيعة العراقيين ولتاريخ علاقتهم بسلطة جمهورية الرعب!، فانها، الجماهير، عملت ضد مصالحها في انتخابات 2010 ولم تأتي بمن هو الأجدر والأصدق والمؤتمن على خدمتها.

ويبدو أن كرسي السلطة في العراق فيه مسمار طويل "مزنجر"، ما أن يجلس عليه السياسي حتى يصل الى ضميره .. فيثقبه ويلوثه ويفسده!.ولهذا تراه مزدوجا، بين لسان يبقى يجيد الكلام في الوطنية وخدمة الناس وبين فعل مدفوع بضمير تهرّأت قيمه .. وميزان الحكم لمفردات الفعل لا لمفردات الكلام.

اما المحتل فهو الوحيد بين الأربعة الذي يجاهرعلنا بأنه مع عراق مستقر يضمن مصالحه، ولا يهمه ان كان الحاكم زيدا أم عمرا .. ما دام هو الذي جاء بهم بولادة قيصرية يحتاج وليدها الى حاضنة ! .. ترعاه ويحتمي بها.

ان هذه التركيبة المعقدة والمتداخلة من مناضلين فشلوا سياسيا وخسروا اعتباريا حين صاروا حكّاما، وجماهير ما تزال تعمل ضد مصالحها، وتاريخ سلطة "نصحت" من يصل الى كرسيها أن يرفع شعار(لأعضّ عليها بأسناني)، ومحتل استكمل بناء قواعد عسكرية في مواقع على أرض عراقية .. لن يبشر بحاضر تنفرج فيه الأزمات ومستقبل يطمئن له الوطن والناس .. الا في حالتين:أن يستمر علماء البلد بنصح السياسيين وان استمروا بغلق آذانهم، وأن يعمل المفكرون والمثقفون والأكاديميون على توعية الجماهير المغلوب على وعيها بالنوعية التي ستأتي بها لبرلمان 2014 .. اذا بقيت الديمقراطية تتنفس الى ذلك الحين!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1446 السبت 03/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم