أقلام حرة

الرابع عشر من تموز عام 1958م في مدينة الحي / بشار قفطان

بسبب المعاناة من الاعتقالات والسجون والإبعاد والفصل من الدراسة وجريمة إعدام اثنان من شبابها . صورة انتفاضة مدينة الحي اكتمل انتصارها فجر يوم الرابع عشر من تموز الخالد عام 1958.

 لقد انتصرت الإرادة التي ناضل من اجلها أبناء المدينة مع سائر أبناء الشعب العراقي طيلة الفترة الماضية ، ودفعوا الثمن غاليا ولكن انتصار الثورة الوطنية الديمقراطية فجر الرابع عشر من تموز الخالد هو النتيجة الحتمية لمصير الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية ، جاء حصد الثمار من تلك التضحيات التي قدمها أبناء شعبنا التي لم تذهب سدى

 عاشت المدينة أوضاعا خاصة بعد ما ألت إليه الانتفاضة المسلحة التي قادها أبناءها في كانون الأول من عام 1956 م وإعدام اثنان من أبطالها مطلع عام 1957 والسجن بمدد مختلفة لمعظم الذين شاركوا فيها ، ترك ضلاله على أوضاع المدينة بشكل

 عام ونفسية أبناءها بشكل خاص . إذ صارت في شبه عزلة عما يدور على الساحة العراقية ، بانحسار مدها الجماهيري.

 تنظيمات الحزب الشيوعي التي كانت مهيمنة على الأوضاع قبل الانتفاضة ليس من السهل معرفة انتظامها أو عودت ارتباط الخلايا بشكل منظم . ولكن أجهزة السلطة لا زالت تتابع و ترصد التحركات لكل من تحس له نفس بالنشاط الوطني السياسي من خلال التقارير الأمنية

 .. اذ ورد في احد تلك التقارير .."عن تكرار الزيارات التي يقوم بها (المحامي الشيوعي فوزي الأحمر إلى مدينة الحي ولقائه مع مجموعة من الشباب من بينهم المرحوم ماجد عبد الأمير بقال باشي وتوثق تلك التقارير .. إن الزيارات و اللقاءات المتكررة

تنصب في إعادة التنظيم للشيوعيين العراقيين في القضاء ، ... ولكنهم لم يبخلوا في التركيز على تلك المراقبة والمتابعة لتلك النشاطات أو الاجتماعات) .

 من الجدير بالذكر إن المرحوم فوزي الأحمر هو من المحامين التقدميين المعروفين و احد أعضاء لجنة معاونة

 ا لعدالة التي مارست نشاطا ملحوظا في الدفاع عن السجناء والمعتقلين السياسيين في العهد الملكي ، وهو أيضا زوج شقيقة

 المرحوم الشهيد عبد الرضا الحاج هويش المعروف من قادة الانتفاضة والمحكوم عليه غيابيا بالإعدام شنقا حتى الموت . الحياة في المدينة تسير بشكل طبيعي .. لا تظاهرات او اعتصامات أو إضرابات طلابية كما كان يجري قبل أيام الانتفاضة . وهم كانوا سباقون في فعالياتهم التضامنية على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي . ولربما البعض صار على قناعة بما أعلنه رئيس الوزراء نوري السعيد عام 1957 في احد خطبه من دار الإذاعة قائلا : ما من احد يتجرأ على النظام القائم مختتما تلك ألخطبه بأهزوجته الشهيرة (دار السيد ما مونه) .

 لا ندري لربما هناك من التوجيهات كانت تصل بشكل سري على سرية العمل وتكليف العناصر الغير مكشوفة ، ولكن حسب

تقارير لأجهزة الأمنية تشير إلى عودة الشيوعيين في القضاء من إعادة بناء تنظيمهم ونشاطهم السري صبيحة يوم الرابع عشر من تموز وكالمعتاد لابد من احدنا من الأولاد في العائلة أن يستيقظ مبكرا لجلب فطور الصباح من السوق وخصوصا الخبز ، وفجر ذلك اليوم كانت تلك المهمة من واجبي . الخبازة هدية ام وحيدة قريبة من دارنا وسارعت في ألذهاب إلى جلب ما نحتاجه من الخبز ، في ذلك اليوم اعتذرت من الخبز و ممارسة عملها لإصابتها بوعكة صحبة . (وبعدها صرنا نمازحها بانها كانت على علم بموعد تنفيذ الثورة) تركتها ذاهبا إلى عكَد الخبازات الذي تتواجد فيه مجموعة من النساء اللائي يمارسن المهنة . ولكني عشقت خبز المرحومة غزالة لجودة خبزها وتقع دارها في عَكَد الحدادين ، واهتمامها بسرعة تجهيزي من الاحتياج ومهما كان عندها من الزحام ، رحم الله تلك الإنسانة الطيبة . الذهاب الى المرحومة غزالة يمر عبر السوق الكبير للمدينة الذي انتشرت فيه المقاهي ومنها على سبيل الذكر ، مقهى الحاج جميل الحاج حسون الرويشد التي تقع في رأس الشارع الذي نسكنه ، والقريبة منها مقهى المرحوم إبراهيم أبو جبار و تقابلها مقهى خالي دخيل شملوص شقيق والدتي ، وكان في تلك المقاهي الثلاث المتقاربات راديوات من الحجم الكبير والتي تعددت تسمياتها وقت ذاك السيرا والفليبس وغيرها من الأسماء .

 عندما صرت قريبا من مقهى الحاج جميل سمعت صوتا غير معتاد على سماعه وكان عامل المقهى غير مكترث بسماع صوت المذياع وبأعلى صوته .سرت قليلا نحو الأمام وإذا نفس الصوت ونفس الكلمات اسمعها من مذياع مقهى إبراهيم ومقهى خالي . رجعت و سالت العامل الذي يعمل في مقهى الحاج جميل عن الأمر .." ؟ قال صارت ثوره ضد الملك .." عدت إلى البيت مسرعا وفتحت الراديو بأعلى صوته كانت النتيجة أن استيقظ الوالد فزعا هو يصيح بصوت مسموع (تطلبوني بطلابه من الصبح تسمعون إذاعة موسكو والله راح أتهجمون البيت علينه من الصباحيات) ونالني منه ما نالني من الكلام الخشن

ووسيلته الأخرى التي سهل عليه استخدامها ، معنا وأنا أجيب على تساؤلاته وإقناعه بحقيقة الأمر .. (بابه والله العظيم هذي مو إذاعة موسكو هذي إذاعة بغداد وبالسوَك الراد يوات كلها أتذيع هذا الصوت وأسمعت موسى عامل

 كَهوة حاج جميل كاللي صارت ثورة ضد الملك) . الوالد اخذ يتحكم بمزول المذياع وأيقن أخيرا ان البث هو من إذاعة بغداد وليست إذاعة موسكو او صوت العرب او غيرها من

 المحطات الإذاعية التي تعودنا سماعها خلسة . ربحت المعركة بالرغم من التأنيب الذي نالني وبعض الضرب ،ولا احد سألني عن الخبز والفطور..."" ولكن الوالد اخذ يصدر أوامره علينا أشيه بأوامر منع التجول . ممنوع الخروج إلى السوَك ..الخلود إلى الهدوء والسكينة ، حتى تنجلي الأمور ." ، ولكن سرعان ما تبخرت تلك ألأوامر والتمرد عليها .

 بد ء الناس يتواجدون في الشوارع وبعض العوائل تتجمع أمام مساكنها يتصافحون ويتعانقون مهنئين بعضهم بعضا بهذا الحدث التاريخي و يتناقلون الخبر والحدث عن أخر البيانات التي تصدر من إذاعة الجمهورية العراقية ،علامات الفرح والاستبشار بالنصر صارت واضحة على وجوه أبناء المدينة ، اخذ الناس يتجمعون في سوق المدينة الرئيسي و أمام المقاهي والإنصات إلى البيانات التي تصدرها حكومة الثورة ، وقام مجموعة من الشباب بإنزال صور الملك وبعض صور المسؤولين التي علقت في بعض المقاهي والمحلات العامة

. خرجت مظاهرات بالرغم من ألهاجس الذي كان الحديث يدور عنه بسبب عدم إلقاء القبض على رئيس الوزراء نوري السعيد واختفاءه المؤقت .

. البعض من الذين سبق لهم الاختفاء عن أنظار السلطة البائدة اخذ يظهر إلى العلن وينظم تلك التظاهرات ، المتظاهرون كان جل

هتافاتهم بحياة الرئيس المصري جمال عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة وسقوط الاتحاد الهاشمي ، ولا احد خطر بباله الدعوة إلى تمجيد قادة الثورة العراقية. واليوم الخالد ، كان يوما مشهودا لم تألفه المدينة من قبل من حيث الفرح والاستبشار .

يوم الخامس عشر من تموز كان للتظاهرات شكلا أخر من حيث سعتها في كثرة المنضوين تحت لوائها وتنظيمها بتواجد أعداد غفيرة وظهرت بيد المتظاهرين صور شهداء انتفاضة الحي البطلين علي الشيخ حمود وعطا مهدي الدباس ، وفي عصر ذلك اليوم خرجت تظاهرة شارك فيها لأول مرة ضابط التجنيد الرئيس الأول عزت الذي نسيت اسم أبيه وبملابسه العسكرية وكان يتقدم تلك التظاهرة ويبدي حماسته ، وأمام مقهى الحاج جميل ارتجل كلمة حيا فيها الثورة وقادتها ، و اعتبر انتصارها السريع جاء من خلال الدعم ألا محدود الذي قدمه أبناء الشعب العراقي وشكر أبناء المدينة على دورهم النضالي المشهود واعتبر انتصار الثورة حصيلة إعدام علي الشيخ حمود وعطا الدباس وسائر الشهداء . وخلال كلمته المرتجلة وجه نقدا لاذعا للمتظاهرين على الشعارات التي كانوا يرفعونها والهتافات التي يطلقونها قائلا .. : إن ثورة الرابع عشر من تموز هي من بطولة وانجاز إخوانكم العراقيين في القوات المسلحة علينا من هذه اللحظة ان نحي بإجلال قادة الثورة الإبطال عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وسائر الضباط الأحرار ،ومن تلك اللحظة صاح المتظاهرون (ماكو زعيم إلا كريم)

(وكلنا جنودك ياكريم) (عمال وفلح نبنيها اشتراكية) (جيش وشعب وباك ياقائد الثورة) وكان المرحوم محمد علي جلاب شقيق المناضل هاشم جلاب يرفعه المتظاهرون على أكتافهم ليبعث لهم بأهازيجه وهوسا ته المعبرة عن الفرح والتأييد للثورة وقادتها ومعه بعض الإخوة من الشعراء واستمرت تلك الفعاليات بالابتهاج بانتصار الثورة طيلة ساعات النهار ، و قام بعض الشباب بدورهم في الحراسات الليلية و مراقبة التحركات للعناصر المشتبه بها ، ومتابعة البيانات والمراسيم الجمهورية التي تذيعها محطة الجمهورية العراقية ، في الأيام الأولى للثورة التأم شمل بعض العوائل بعودة أبناءها الذين تركوا المدينة بعد انتفاضة كانون الأول عام 1956 م هكذا كان عرس الثورة في مدينة الحي التي اكتحلت عيون بناتها وأبنائها بانتصارها يوم الرابع عشر من تموز ذلك اليوم الذي أعاد البسمة على الشفاه وتحقيق المنجزات الوطنية والديمقراطية . وأقدمت حكومة الثورة على إطلاق سراح كافة المعتقلين والموقوفين

السياسيين في وقت لاحق من عمرها وكان أبناء المدينة سباقون في استقبال أبنائهم ليلة إطلاق سراحهم من سجن بغداد المركزي بعد أسابيع قليلة من انتصار الثورة وكأن صورة الشاعر الراحل ابن مدينة الحي زاهد محمد زهدي شاخصة ألان أمامي وهو يقود التظاهرة التي انطلقت في المدينة ابتهاجا بإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين من أبطال الانتفاضة الباسلة لعام 1956 م

مجدا لثورة الرابع عشر من تموز في عيدها الخالد

وتحية إجلال وإكبار لقادتها الميامين

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1457 الاربعاء 14/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم