أقلام حرة

بريشة العالم الوردي.. لوحة حادثة / نبيل قرياقوس

منهم من سيخبرك انه شاهد شجار شخص مع لص حاول سرقته، اخر سيقول ان شجارا حصل بين صاحب محل تجاري واحد الزبائن، بينما ينبأك ثالث بقصة لا علاقة لها بالقصتين السابقتين،حيث يقول ان امرأة عانت من ازمة قلبية سقطت في الشارع فتسارع الناس لمساعدتها، يخبرك اّخر بانه شاهد جمهرة من الناس وقد احاطت طفلا تائها، وهكذا .. في حين تكون الحادثة الحقيقية هي نزاع  بين سائقي سيارتين حول اسبقية مرورهما في الشارع، وهذا ما لم يذكره احد من الشهود !!

الكل يرى الحادثة وفق ظروف ومعايير تحكمه، ربما كانت بعض تلك الشواهد قد حصلت فعلا بعد حصول النزاع بين سائقي السيارتين، ربما تكون بقية الشواهد الاخرى (ظنا) للبعض بسبب ما تهيأ لهم من صور او احاديث لم يفهموها جيدا، فتشكلت في ذهنهم وفق اقرب اجواء ومستويات تفكير يعيشونه، فالذي اخبر عن عن شجار اللص، قد يكون تعرض (هو او احد اقاربه) لحادثة سرقة في تلك الايام مثلا، وصاحب قصة شجار صاحب المحل قد يكون احد المتأثرين بسؤ تصرفات بعض اصحاب المحلات او روادهم، وصاحب رواية الطفل التائه قد يكون من الذين يخافون على اولادهم بسبب ظرف ما، ودواليك .

لا ننسى ان شهودا قد يصرحون بانهم رأوا، وما هم رأوا شيئا، لكونهم تأخروا لحظات عن الحادثة، فاعتمدوا على ما سمعوه وليعتبروا انفسهم وكأنهم شاهدوا الحادثة !

الخلاصة، سادتي، لم اجد يوما تطابقا بين حكايتي شاهدين لحادثة بسيطة حصلت امامهما قبل دقائق ونحن في عصر الذرة ، فكيف ساصدق ما قيل او كتب عن اناس قبل عقود او قرون ؟

هذه الظاهرة او السلوك الاجتماعي ليس مقتصرا على مجتمع دون اخر، وان اتساعه او تقلصه مرهون بالحالة الثقافية والعلمية لافراد المجتمع، الدقة في نقل الحقيقة النسبية تزداد عند الانسان الذي تصقل ابصاره لغة العلوم والمنطق، لذا فاننا نثبت تفاقم تلك الظاهرة الاجتماعية طرديا مع قدم الزمان .

يهيأ لي، ان احد اسرار  عبقرية وشجاعة الراحل علي الوردي في اغلب مؤلفاته يكمن في تفهمه ضمنا لهذه الظاهرة من السلوك الاجتماعي الانساني، بل انه استطاع رغم وجود صفات خاصة بالمجتمع العراقي ثبتها بنظريات  لم يستطع احد للان مناقضتها، ان يتابع الاحداث التأريخية العراقية وان يقع (في اغلب الاحيان) على حادثة النزاع الذي وقع بين سائقي السيارتين، هذا لو اردنا تسهيل الحديث بمشابهة مستوى الاحداث التاريخية التي تعاطاها الوردي مع الحادثة التي رويناها في بداية كلامنا . 

اسلوب المبدع الوردي متميز غالبا باعتماد العلمية والمنطق في الحجة، مع حشد (صورة واقعية حية) من حياتنا الاجتماعية اليومية  خلال بحوثه ونظرياته، ليستشهد بها قوة لصحة حججه .

كم كنت اتمنى من الخالق تعالى ان يطيل عمر الراحل الوردي، لاقابله وارجوه ان يرسم لوحة حادثتنا، وليضعها مع مئات اللوحات التي رسمها عن العقل البشري والمجتمع العراقي بفكره الشجاع الخلاق، ولتصبح فيما بعد اوضح صور رسمت بفرشة عبقري عراقي ابهرت ملامحها والوانها علماء العالم جميعا .

في مقالاتنا القادمة المزيد من اللوحات ..

 

نبيل قرياقوس

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1462 الاثنين 19/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم