أقلام حرة
"والي سرقتستان وسرقة خاتم الحكم" / جاسم العبودي
فردّ الوالي عليه أنه سأل جميع الخدم وحراس القصر ولا أحد يعلم شيئا عنه..
ثم طار الخبر كالبرق.. فهرع جميع أفراد حكومته من وزراء، وأعضاء مجلس الفرهود، وكبار السماحات، وسفراء الدول المعتمدة، والحاشية إلى القصر.. الواحد يبلغ الثاني الخبر، لأن مصيبة كبرى ألمت بالوالي.. واصطفوا في صفوف تخالف العرف الدبلوماسي.. وزراء في الصف العاشر.. طباخون ومنظفون في الصف الأول.. رجال سماحات وسياسة وسفراء مبثوثون بين الصفوف.. وهكذا..
هذا يربط سرواله.. وذاك يشدّ عمامته.. وآخر وصل حاسر الرأس (بدون عمامة).. ورابع حضر بملابسه الداخلية.. وخامس لابسٌ خفين مختلفين.. وسادس مُرْتَدٍ قميصَ نومٍ مزركش.. وسابع يداوم على قراءة التعاويذ خلسة.. وثامن يمسح ذقنه المرتجف رُعباً.. وتاسع يبسبسُ مع نفسه.. وكثير منهم مهتمٌ بترتيب گذلته النجادية.. وتحريك محابيسه وفق طلاسم غامضة.. وهكذا..
وكلما يُطأطِئ الوالي رأسه.. يغتنم بعضهم هذه الفرصة.. ينبس بأذن من يقف بجانبه لتصيّد الأخبار.. فبعضهم إعتقد أن وزير الشرطة عصى أوامر الوالي.. وآخر ظنّ أن هجوماً من دولة كويتستان اجتاح بلدهم المستقر الغني بالكهرباء.. وثالث ظن أن زوجات الوالي انتفضن عليه بالخيزران يطالبن بعلاوات رضاعة وبدل فِراش ولا سيما أنهم يرونه عاصب الرأس..
فتقدم إليه كبير المستشارين الذي يرأس 99 من فحول المستشارين، وهو يملِّسُ لحيته البيضاء وبلكنة غير عربية: مولانا.. حزرتكم راس ?بير (كبير).. معقول نيا والي يكول كزب.. هازي فزيحه.. إحنا يكشف هرامي.. إحزار كلب شمام.. هو وهيد يكشف خاتم..
فهبَّ غلمان الوالي.. ولم تمر ثوانٍ إلا والكلب الشمّام بين يدي الوالي..
فزعق الوالي بالحضور قائلا: كما ترون هذا الكلب الشمّام.. مخيف جداً وذكي، وبإستطاعته أن يشمّ أثر السارق حتى لو كان مختبئاً وسط مئات الجرذان..
فانطلق الكلب وهو يعوي بين الصفوف بصحبة سبعة من عبيد القصر مفتولي الذراع، صغيري العقل.. وقد اعترى الناس الذعر.. حتى حاصر وزير التموين الذي كان متخفياً في الصف الأخير بين عبيد القصر.. وجاء به عبد غليظ يسحله من "ياخة" قميصه..
مولانا.. آني لم أسرق خاتم الحكم.. "كل ما أخذته ثلاثة مليارت دولار هي لصقت بيدي.. و 40 دولار فرمان على كل طن حنطة مستورد.. الله وكيلك.. والعباس كفيلك"..
فأمر الوالي بإحضار أقفاص دجاج ضخمة.. وطلب أن يُحجز وزير التموين في أولها..
وفجأة برز من بين الصفوف المحتشدة رجل أشقر طويل القامة يرتدي نصف بنطال خاكي واقترب من الوالي:
مولانا.. "آني سفير جلالة ملكة بلفورستان.. أحب أعلم فخامتكم انزعاج جلالة ملكتنا الموقرة.. هزا وزير تموين واحد من رعايا مملكتنا.. يملك جواز سفر دولتنا.. نطلب من فخامتكم اطلاق سراح من قفص دجاج هزا.. وإلا تتحملون عقوبات وخيمة"..
نكس الوالي رأسه.. وأمر أن ينقل وزير التموين إلى خيمة مكيفة على مقربة من القصر.. ثم أطلق الكلب ثانية.. فهب بين الحضور وقد دوى الرعب في القصر.. حتى حاصر وزير الخزانة..
مولانا.. (وهو يتمتم بأدعية الخلاص، ويعدّل گذلته النجادية).. "آني مو سرقت حلقة حكومت.. آني أخذت زايد موازنات بأربع سنوات.. 36 ميليارد دولارات.. نبني شوية قصورات للزعاطيط في دولة تَهرانسات".. وقفز عبد ثانٍ بإشارة من الوالي ليسحله إلى قفص الدجاج الثاني..
مدير التشريفات (بصوت عالٍ): مولانا وصل مدير البرق يحمل برقية سرية من رئيس دولة تَهرانسات.. قلّبها الوالي.. وهزّ يديه.. وأشَّرَ بإبهامه للعبيد فنُقل وزير الخزانة إلى الخيمة المكيفة..
ثم قام غلمان القصر بفرش بطانيات (أبو النمر) للكلب مكافأة له حتى يستريح.. وهو رابض كالأسد الهصور قرب سيده.. بينما اقترب بعض من الحاشية لمداعبته.. فهذا يتغزل بعيونه مشبهاً لها بعيون المها.. وذاك يثني على شجاعته العنترية في حفظ أمن دولة الوالي "أدام الله ظله".. وآخر يتمنى أن يكون من بين مربيه.. تقرباً أو اتقاء.. وذلك يعرض عليه زواجه من أجمل كلبات مدينته..
وجاء غلمان آخرون له بسُفرة فيها ما طاب ولذّ من لحم كتف ضأن ومخ عصافير وماء مثلج معدني يُبرّد فيه غليله.. بينما آخر يدلّك له أقدامه.. وثانٍ يحمل مِهَفَّة كبيرة على رأسه..
ثم نهض الوالي.. فعمّ الصمتُ القصر.. حتى إذا وقعت إبرة سُمِع رنينها.. وبدأ بالتمشي أمام الصفوف.. ويداه خلف ظهره.. وتارة أخرى يضرب أحداهما بالأخرى.. فيجفل القوم منه..
ثم أشار إلى كبير الغلمان.. فانطلق الكلب الشمام يلحقه العبيد السبعة يشمّ أرجل وأيدي الحضور.. حتى حاصر رئيس مجلس الفرهود.. وأثنى على يديه ورجليه بعضّات فنية ماهرة..
فَجُرّ إلى الوالي والدم يسيل من كل جزء من جسمه.. ولم يبق جزء من جبته سالماً من عضات الكلب.. حتى غلب الظن على الحضور بأن الكلب أصبح مسعوراً..
رئيس مجلس الفرهود: مولانا.. (وبسرعة يقاطعه الوالي): ولا كلام.. لا مولانا.. "ولا كلاوات".. إنتَ أكثر واحد عضّه الكلب.. عارف لِيشْ ؟.. لأن "تلغفُون" رواتب أسطورية ومخصصات دسمة ومكافآت خيالية وإيفادات متواصلة وإجازات طويلة ومتعددة.. والشعب ميّت من الجوع.. هذي العضات "حوبة" هذا الشعب المظلوم..
رئيس مجلس الفرهود: مولانا.. "وداعة" شوارب فخامة الوالي.. "وَلْلِي" يحلف بشورابه كذب ابن حرام.. آني ما سرقت خاتم الحكم.. بس هو راتب 75 مليون دينار شهرياً.. وشوية مخصصات مائة مليون دينار شهرياً للحبايب.. ونثرية للشاي والكباب وكم هدية مائة مليون دينار شهريا..
الله يحفظ دولة الوالي !.. شهرونا على زيارتنا إلى دولة كويتستان الشقيقة.. لأنه أخذنا مصروف جيب مائة مليون دينار.. وفقط ثلاثين فرد من حزبنا حزب "الفشخرة".. كنا ذاهبين حتى "نطلب منهم طلب زغير".. بس بيني وبينك "رَزَّلوني".. "هذي أذني (يجرّ أذنه اليسرى بيده اليمنى) إذا رحت مرة ثانية إلى مثل هاذي الشُكُولات.. زَعْرَنة وَمَزْعَطَة"..
الوالي (يشتاط غضباً) وينادي على "أبو سيّاف" طوله متران.. مزمجراً: (خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه).. جزاء ما اقترف مجلس الفرهود وأعضائه من فضائح خلال مدة رئاسته..
ثم اقترب الأفندي الأشقر صاحب النصف بنطال خاكي ثانية أمام حضرة الوالي:
الوالي (لم يدعه يتكلم وقال له بلهجة تهديد لم يعرف لها مثيلاً): آني أعلم أفندي إنتَ سفير جلالة ملكة بلفورستان.. وأعلم هذا النصّاب عنده جواز سفر من مملكتكم.. تعهد أمام جلالتنا التنازل عن جواز سفر مملكتكم.. لكن بالنهاية ضحك علينا وعلى الشعب.. لو قامت حرب عالمية ثالثة.. لن يُطلق سراحه.. ولا أحد يدوايه ويداوي من أمثاله إلا أبو سيّاف.. روحْ ولا شوِّفْني وجهك مرة ثانية.. وإلا أَقُوملك بالقَــ..."..
وأطلق الكلب من جديد.. ومرّ وقت طويل.. والكلب يدور بين الحاضرين يتبعه العبيد.. فانقلب القصر إلى فوضى عارمة.. بين صاعد على الأرائك أو خلفها أو تحتها.. ومتدافعين وصارخين ومتضرعين.. حتى حاصر صاحب الشرطة الذي كان مرتدياً زي امرأة ومتخفياً بين حريم الوالي..
صاحب الشرطة: والله.. مولانا.. كنتُ متخفياً بين الحريم لإكتشاف إرهابي تحرير دولة أندلستان من خلال ذبح أبرياء دولة سرقتستان.. فتحنا لهم السجن كم مرة.. وهربوا حتى نكشف الآخرين.. عارف معاليكم كنّا مشغولين بحملتنا الإنتخابية للفوز بمنصب رئيس وزراء دولتكم لإنقاذ المحرومين من الإرهابيين والظلاميين والجراد السّام الهابّ علينا من الصحراء..
كل عملياتهم الإرهابية فَشلتْ - دولة الوالي – "ما خلَّناها" توصل إلى فخامتكم.. ولا إلى جناب السماحات.. شوية متفجرات على باعة الخضر والدجاج والطيور.. وبعض الأحزمة الناسفة في الجوامع والكنائس.. وكم إنتحاري على الشرطة والجنود.. الوضع مستقر "مِيّه بالميّه"!..
سحقنا كل مظاهرات "الشغب" ضد الحكومة.. خصصنا عشر فرق من الشرطة لحماية حدود ولاية برازستان؛ والنصف الآخر: خمس فرق للسهر على أرواح وأملاك الوزراء ونواب مجلس الفرهود.. وأربعة للسهر على راحة أصحاب السماحات الجدد.. وفرقة لتنظيم مرور الزيارات اليومية.. وبقي كم شرطي لحماية آبار الماء والحدود.. "كُلّهْ" من أفضال دولة الوالي..أدام الله عزه !..
واشتاط الوالي غضباً من زيف وفشل صاحب الشرطة.. واهتز القصر لصراخه.. ثم زعق على "أبو سيّاف" ليكون مصيره مثل قدر رئيس مجلس الفرهود..
وهكذا دار الكلب الشمّام على كل أعضاء حكومة الوالي ونوابه وحاشيته.. ولم يبق واحد منهم إلا واعترف بذنب إقترفهُ.. ورغم كل ذلك لم يكن أي منهم هو من سرق خاتم الحُكُم..
وأخيراً ظلّ الكلبُ يدور حول الوالي وهو يعوي عواء يُشبه نحيب الثكلى..
الدكتور جاسم العبودي
في 24/7/2010
[email protected] E-Mail:
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1469 الاثنين 26/07/2010)