أقلام حرة

طارق عزيز – صورة الركاكة والانحطاط! / ميثم الجنابي

فالعرب تقول اسم على مسمى حالما تتطابق حقيقة الاسم مع حقيقة المعنى في حامله. كما تستعمله للسخرية والهجاء حال تعارضهما. وما تريده الآباء في الأسماء محكوم بدوافع متنوعة منها ما هو مرتبط بذكرى معينة وآخر بصدى الذاكرة، وثالث بنغم الأسماء وتتاليها، ورابع بإعجاب شخصي وما إلى ذلك. إلا أن للحياة مقاديرها وقدرها فيما ندعوه بالمصير. فعبد العزيز يمكنه أن يكون عبدا، ويمكنه أن يصير عزيزا. وطارق يمكنه أن يكون قادما مقداما طارقا للنوازل والمعارك والاكتشافات أو مطروقا بمطرقة العبودية والإذلال. وخاتمة المرء كما يقال حقيقته.

وفي حالة طارق عزيز، فإننا نقف أمام صيرورته في مطروق ذليل وجد طريقه في نهاية المطاف إلى سجن مؤقت. فالحكم عليه بخمسة عشر عاما بالسجن "لدوره في إعدام أكثر من أربعين شخصا" هو عين الرحمة السياسية. أما السجن الحقيقي فهو بقاءه ضمن عبودية النفس والجسد لأرذل ما أنتجه العراق في عصره الحديث: التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية!

إننا نعثر في هذا اللقاء على الصيغة الفعلية لنمط تفكير "البعث المجاهد" من اجل السلطة والولع بها فقط. بمعنى إننا نعثر فيه على نمط نموذجي لما يمكن دعوته بالخلل العقلي والروحي والأخلاقي في نفسية وذهنية التقاليد البعثية التوتاليتارية التي أدت في نهاية المطاف إلى تدمير العراق واحتلاله من جانب القوات الأجنبية (الأمريكية البريطانية بشكل خاص). والأغرب ما في الأمر انه يجد في القاتل ملاك الرحمة المحتملة! إذ نسمعه يقول "أن الولايات المتحدة وبريطانيا قتلتا بلدنا". وبالمقابل لم يجد في هذا القتل شيئا غير الخطأ العابر كما في قوله: "عندما ترتكبون خطأ يجب أن تصححوا هذا الخطأ". لكن المفاجأة الكبرى في البحث عن تصحيح هذا "الخطأ" تقوم في دعوته إلى أن لا تترك هذه القوى المحتلة والقاتلة العراق لأهله. لأنه وجد في أهله مجرد ذئاب! وقال بهذا الصدد: "إن خطة الرئيس الأمريكي باراك اوباما الرامية إلى سحب القوات الأمريكية المقاتلة من العراق ترقى إلى ترك العراق للذئاب"!! 

إننا نقف أمام صيغة نموذجية لنفسية وذهنية الانحطاط والسقوط التام، التي كونت شخصيته الخربة في ظل عقود الدكتاتورية الصدامية، أي الانغماس في العبودية، كما لو انه ألذ الأشياء للروح والجسد! انه يطالب المحتل بالبقاء وعدم تسليم البلد إلى أهله لأنهم ذئاب! ومفارقة الظاهرة التي يصعب حدّها بحدود المنطق والحقيقة تقوم في انه يجعل من العراقيين ذئابا ومن الأمريكيين والبريطانيين حملانا وديعة! انه يجعل من القتلة الفعليين للعراق آلهة جديدة لإحياء الموتى! فهو يصفهم بعبارة "من قتل العراق" وبالمقابل يطالبهم "بعدم ترك العراق يموت"! وهي صيغة قد تكون الأكثر "بلاغة" في ركاكة العقل والروح والضمير. إذ نعثر فيها على مستوى غريب من الركاكة في التعبير والفهم والمعنى. إنها الصيغة الشبيهة بما كان احمد فارس الشدياق يطلق عليه عبارة "حكاكة الركاكة". لكننا نقف هنا ليس أمام ركاكة لغوية، بقدر ما نقف أمام ركاكة العقل والضمير. وما بعدها ركاكة الرؤية السياسية لرجل قضى في "قيادة" الدولة (وليس إدارتها) عقودا مديدة من الزمن (أي بلا تاريخ). لعل في تفسيره وموقفه من السياسة الأمريكية وآفاقها، ومن صدام حسين وماضيه مظهرين لهذا النمط من الركاكة والانحطاط. فهو يقول ما يلي: "عندما انتخب اوباما رئيسا اعتقدت انه سيصحح أخطاء سلفه. ولكن اوباما مخادع. ترك العراق لمصيره". يا لها من عبارة بطولية! أن اوباما مخادع لأنه يترك العراق لأهله! إن اوباما رجل رذيل لأنه يترك مصير العراق للعراق! أي أن المصير الأفضل للعراق أن يكون مرتهنا بالإرادة الأمريكية، أي قوى الاحتلال التي "قتلت العراق"!

غير أن هذا التناقض الحاقد والفاسد سرعان ما ينحل على خلفية المضمون الفعلي لهذا النمط من الركاكة الشاملة والتامة للعقل والضمير. فالعراق الممكن والمحتمل بالنسبة له هو عراق صدام والبعث والدكتاتورية والتوتاليتارية، أي عراق العبودية والذل. فما بالك من رجل (أو بصورة أدق نصف رجل) يعتقد بان صدام باني العراق! إذ نسمعه يقول: "خلال ثلاثين عاما بنى صدام العراق والبلد هو اليوم مدمر". وهي عبارة مثيرة للالتباس من حيث المحتوى والأسلوب. إذ لا يمكن معرفة الآلية التي تجعل من البناء تدميرا، أو كيف يمكن أن يؤدي البناء إلى حالة تخريب وخراب شامل؟ ويستكمل ذلك بعبارات يشير فيها إلى أن الحالة الآن أصبح فيها المزيد من الجياع، والناس لا يحصلون على أي خدمات عامة. الناس يقتلون يوميا بالعشرات إن لم يكن بالمئات". بعبارة أخرى انه يقر بصورة غير مباشرة، بان العراق كان يحتوي على جياع والآن أكثر، والناس كانت بلا خدمات والآن اشد، وان الناس كانت تموت لكنها الآن تموت أكثر! وبغض النظر عما في هذا التصوير من تزييف للوقائع والحقائق، وعن كونه يجهل ابسط مقومات التاريخ وأحداثه من حيث تسلسل وترابط الأسباب والنتائج، بمعنى انه لا يتحسس ولا يفهم الحقيقة البسيطة القائلة، بان كل ما يجري وسوف يجري من تجويع وقتل وتخريب لفترة قد تطول وتقصر، هو النتاج الطبيعي والملازم لبقايا وآثار التوتاليتارية والدكتاتورية والإرهاب الشامل الذي جعل من الفرد والجماعة كيانات تقليدية، ومن المجتمع كتلة هلامية خاوية، ومن الدولة مؤسسة قمع وإرهاب، وما عدا ذلك صحراء قاحلة. وليس مصادفة أن يحب هذا النوع من أنصاف الرجال صدام. إذ نراه يشدد على محبته لصدام واحترامه إياه. ومن الممكن فهم هذا النوع من المحبة والتقدير المميز لعلاقة العبيد بأسيادهم. وليس مصادفة أن نراه يرى في صدام "رجلا سيثبت التاريخ انه خدم بلده". وأن "صدام بنى بلده وخدم شعبه. ولا يمكنني أن اقبل حكمكم (في الغرب) وهو انه كان سيئا"

إننا نقف هنا أمام اكتشاف غريب من نوعه: دكتاتور خادم؟! طبعا أن من الممكن رؤية الصيغة المشوهة لفكرة "خادم القوم سيدهم"! لكنها تفترض، رغم طابعها النسبي والمتناقض، أن يكون صدام "سيد قوم" بالمعنى العربي القديم! بينما صدام من حيث المنشأ والتربية والشخصية نموذج للحثالة الاجتماعية والهامشية الثقافية والمغامرة السياسية والرذيلة الأخلاقية. وبالتالي فان المعنى الحقيقي لهذه العبارات والمواقف يكمن في نفسية وذهنية العبودية التي غرسها صدام في نفوس أتباعه، أو أنهم كانوا هكذا بالسليقة لاعتبارات تتعلق بأصول الأقلية والهامشية والحثالة المرفوعة بفعل سيادة التقاليد الراديكالية الحزبية (المؤامرة والمغامرة) إلى مصاف "العقيدة السياسية".

إن عدم اتفاق طارق عزيز مع الصيغة الشائعة في الغرب عن "أن صدام حسين كان سيئا" تتسم بقدر من الحقيقة كبير. لكن مضمونها يقوم في منحى آخر، وهو أن صدام "لم يكن سيئا" (في الماضي)، بل هو سيئ دوما فيما مضى والآن ولاحقا. وهو حكم لا علاقة له بالواقع السياسي الحالي والنخب. فالعراق يحتوي وسوف يبقى يحتوي على اثر الصدامية الخرب في كل مسام حياته الواقعية. لكن خصوصية صدام تقوم في كونه صدم كل مكونات الوجود العراقي فارداها خرابا. الأمر الذي جعل منه رذيلة تامة مطبقة جامعة. وظهور أسوء منه (وهو أمر محتمل، لكنه مستحيل في ظروف العراق الحالية والمستقبلية) لا يعني انه لم يكن سيئا أو انه يتمتع بفضيلة ما. إنها مجرد مقارنة بين رذائل. ولا معنى لتفضيل رذيلة على أخرى، وخطيئة على أخرى حالما تعادل هذه الرذائل والخطايا من حيث أثرها وتأثيرها فعل الجريمة التاريخية الكبرى بحق الفرد والجماعات ولا أقول المواطن والمجتمع لانعدامهما في ظل الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية.

إن كل ما في الحديث يكشف عن مضمون التقاليد البعثية الصدامية وأيديولوجيتها بوصفها رؤية مختمرة من عبودية النفس وفساد العقل وانعدام الضمير! أي من اشد العناصر خرابا وتخريبا لكل ما هو موجود، أي كل ما نعثر عليه في خاتمة البعث والصدامية والبقية الباقية من موت مؤجل لخمسة عشر عاما لجثة قابعة في سجون العراق التي انهمكوا (مع صدام) في "خدمة بنائها" على امتداد وجودهم في السلطة ورغبتهم الجامحة من اجل سرقة ماضي العراق وحاضره ومستقبله واحلامه!

***

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1480 السبت 07/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم