أقلام حرة

الشيخة موزة وأنا! / حسن الشرع

فكان الحل عند صديق قديم لم تمنحه الدنيا هو الاخر ما كان يمكن ان يكون له، الحل عنده يكمن في قراءة سورة الواقعة، لكن موانع الرزق الحلال تأبى ان تعمل الواقعة عملها معي، عندها عدت ادراجي الى صاحبي الذي كان هو ما يزال في اسوء حال ..اخبرني حينها انها اشتغلت معه، قلت كيف وقد ساء حالك وضعف بدنك ؟قال :لولا الواقعة لوجدتني شحاذا عند ناصية نفق الشورجة .ادركت ان الرزق عنده هو توقيف السوء ودفع البلاء، بالبركة المانعة للكدية، لقد قادتني القراءة المتكررة والمتأنية للواقعة، ان اتامل واتفقه في كلامها ولفظها...ومن هنا احب ان تكون بداية الحكاية. حكاية الموز!

تساءلت كثيرا مع نفسي لماذا وردت مفردات في القران الكريم في حين لم ترد قرائنها في نفس الموارد او حتى الموارد الاخرى، لقد ورد التين والزيتون والرمان، وغيرها ، لكن لم يرد التفاح والكمثرى والبرتقال في النصوص الشريفة، كما ان السنة التي يفترض فيها ان تفسر القران، لم تحمل لنا هي الاخرى غير ماورد فيه، بل ان ائمة اهل البيت عند الشيعة مات اغلبهم بدس السم له في شراب العنب او الرمان ولم يحدثنا التاريخ ان احد من الناس مات مسموما بالكيوي او البطيخ او الاناناس او الموز. العنب المجفف (الزبيب) والتمر يمكن تجفيفهما وخزنهما طوال الموسم، وهذا ما يفسر تشريع استعمالهما الى جانب الحنطة والشعير في مسألة زكاة الفطرة،  وليس الموز على سبيل المثال.يقول لنا شيوخ الدين :لا تجهدوا انفسكم في تقصي الحكمة الالهية في التشريع فقد لا تكون ظاهرة لعيونكم وبصائركم..

يقول المفسرون ان الموز ورد ذكره في سورة الواقعة، (واصحاب اليمين ما اصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ...) الموز هنا هو الطلح، والمنضود صفة له بمعنى تراكب بعضه على بعض..والكلمة تاتي بالجمع والمفرد، ومن الواضح ان كلمة الاسم طلحة ماخوذ من الطلح ولعله يعنى (موزة) وبهذا الموجب. لم اهتدي الى نص في الحديث النبوي الشريف يشير الى الموز او الطلح او اي كلمة اخرى تؤدى المعنى نفسه ‘وهذا حقا ما اثار استغرابي، على الرغم من ان الموز وقع فيه الكثير من الكلام فيما لحق من عصور واطوار، في فوائده وطلاوته وحسن طعمه وما الى ذلك.

لا اريد ان اتحدث عن فضائل الموز، فربما وقعت تحت دائرة فتوى تحريم لم اكن انتبه لها او ادرك كنهها او سمعت بها، كما حصل في فتوى الطماطم والخيار سوية باعتبارهما في خلوة غير شرعية! توجب اقامة الحد على كل من تناولهما او صنع سلاطتهما او روج لها او قدمها في طبق، فقد قرأت ان هنالك اصناف من الملابس الداخلية المصنوعة من الياف الموز، وهذا ما يضيف الى كفة فتوى التحريم وباستخدام القياس، لكني اتابع بعض مباريات التنس العالمي واشاهد ان كثيرا من اللاعبين يتناولون قضمة من موزة اثناء المباريات للحصول على الطاقة المطلوبة للفوز !لكن اللاعبات ربما (تعففن) عن اكله طيلة المباريات، مع انه يقع ضمن تراثهن الوطني والاجتماعي وحتى الشخصي، لااعرف لماذا !

يتهكم العراقي عندما يختصم مع شخص اخر يهدده فيقول له ساخرا من تهديده، فلترم لي قشرة موز لأتزحلق!، وكم من شخص كسرت يده او رجله او ربما ظهره بعدما فقد توازنه جراء انزلاقه على قشرة الموز، لقد كان معلموا المدارس الابتدائية يشددون على طلبتهم ويعلمونهم الا يرموا قشرة الموز بطريق السابلة، من باب اماطة الاذى عن طريق المسلمين! لقد كان اكل الموز شائعا من قبل اطفال المدارس الابتدائية اثناء فترة الخمسينات والستينات، فكانت الواحدة لا تكلف اكثر من عانة اي اربعة فلوس قبل ان يزيد الزعيم عبد الكريم قاسم رحمه الله العانه فلسا فيصيرها خمسة فلوس مغيرا لونها من الاحمر الى الفضي..في حين كان معدل مصروف التلميذ في تلك الفترة يزيد عن اربعة عشر فلسا، ثم مرت البلاد بعد ذلك بمرحلة الازمات التي شملت النقل العام واختفاء البيض والطماطم والبطاطس وغيرها وبالمناوبة او التوافق وكان من باب اولى اختفاء الموز ومنع استيراده وقد كانت الحكومة هي التي تقوم بكل فعاليلات الاستيراد والتصدير ولا ادري فلربما عوقب من شوهد يقضم موزة مهربة عقابا شديدا بموجب قانون العقوبات البغدادي، لمااقترفه من جريمة اقتصادية بعد ان يمسكه رجال الامن الاقتصادي متلبسا بالجرم مع سبق الاصرار، استمر ذلك (المنع) حتى عام 2003فيما عدا فترتين من بداية الحرب العراقية الايرانية ولغاية عدة سنوات حيث دعمت الحكومة السوق اثاء الحرب، ثم فترة ما بعد مذكرة التفاهم (النفط مقابل الغذاء والدواء) علما ان الموز لم يكن ليعد في حينها من الغداء او الدواء .في حديث له امام كاميرات تلفزيون بغداد انذاك علق الرئيس السابق على الموضوع بقوله ان الموز ربما كانت له اثار سلبية واشار الى مرض الحساسية !.كنت مشاركا في مؤتمر دولي اقامته بعض المنظمات الدولية 1984 بالتعاون مع جامعة البصرة عن تلوث مياه الخليج العربي على اثر تسرب بقعة النفط من حقل نوروز الايراني، حين وجه رئيس اللجنة التحضيرية الاعضاء والمساعدين بانهم ينبغي لهم ان يوجهوا الحديث بالاتجاه الذي تريده القيادة، قاطعه احد المساعدين بقوله :ماذا ان سال احدهم عن عدم توفر الموز في السوق او على مآدب الضيوف‘قال قولوا لهم :صحيح ان الموز لا يتوفر في الوقت الحاضر ربما لاسباب فنية، لكن هناك البرتقال .

بعد عام 2003 ابلغت بشمولي (بمنحة الشيخة موزة) لتدريب اساتذة الجامعات العراقية وبموجب نقاط الخدمة والدرجة العلمية والانجازات العلمية وغيرها من المعايير التي وضعت لهذا الغرض، لقد تزامنت منحة الشيخة موزة مع اغراق السوق العراقية العطشى بالبضائع ومنها الموز الذي ظهر هذه المرة بحجوم كبيرة قيل عنها انها اصناف معدلة جينيا، ولسبب اهمال موظفي دائرة البعثات وعدم درايتهم باساليب العمل الاداري ذات الصبغة العلمية فقد ضاعت ملفتي وضاعت حصتي من منحة الشيخة موزة وبرنامجها التاهيلي، لكني علمت ان بعض الاساتذة انتفعوا من هذا البرنامج انتفاعا سياحيا بالدرجة الاولى، كما علمت ان احدهم عمل جاهدا لان يستبدل اسمي باسمه وقد حصل له، من المؤكد ان الشيخة لم تكن عالمة باسلوب ادارة منحتها، ذلك ان علمت هي ان لها منحة بهذا الموضوع، فمشاغلها متنوعة واهتماماتها متباينة، واموالها (الله يزيدها) ببركة الواقعة كثيرة.

يقول المهتمين بامور الاقتصاد بان الموز يعد المحصول الرابع من حيث الترتيب التجاري بعد القمح والرز والذرة وان دولا بكاملها يكون انتاج الموز وتسويقه العنصر الاهم في اقتصادها من امثال الاكوادور وبنما والدومنيك وغيرها، الا ان العراقيين، وعندما ياتي ذكر لدول الموز لا يتذكرون غير الصومال !ومن غريب الصدف ان كلا من العراق والصومال يتنافسان على المدالية الذهبية والفضية من حيث النزاهة بعد قلب القائمة وبما لا تستطيع اوراق اشجار الموز العريضة ان تخفيه رغم ان بعض الشيوخ المعممين في البلدين يدعون انها سترت عورة المدام حواء والمسيو آدم على راي من يرى فيهما الخطيئة الاولى!

كان سكان بلاد النهرين يتابعون القرود وهي تتناول الموز كما كان يظهر من على شاشة التلفاز شبه الدائرية، لكن هذه اللقطات لم تعد صالحة للعرض وطنيا وقوميا بموجب قياسات ذلك الزمان، فقد اصبحت الشاشات اكبر والصور اكثر وضوحا واجمل لونا فكان منعها امر لا بد منه خدمة للاقتصاد الوطني ونكاية بالامبريالية ثم كسرا للحصار.

عرض اتلفزيون الجمهورية العراقية ذات يوم مشاهد لشجرة موز قيل ان احد الفلاحين المبدعين تمكن من زرعها في سامراء، وقال ان الموز يمكن ان ينجح في العراق، ففرح الناس وسال لعابهم فما هي الا سنة او ااثنتين ويكون في مقدورهم ان يتمتعوا بتقشير الموز والتبرك بقشرته قبل ان تذهب الفاكهة الجليلة الى افواهم، تكرر المشهد بعدها لكن المكان كان في سوق الشيوخ، ابت سوق الشيوخ ان تقر بشيوخ غير شيوخها او شيخة حتى ولو كانت الشيخة موزة.

العراقيون ليسوا اوروبيين او اسيويين او افارقة او اميركان لاتينيين بل هم عرب لا يليق بهم ان يقتاتوا طعاما اكلته القرود والعنوج..

 فالموز لم يكن بالنسبة لسكان العراق غذاءا للادميين، اذكر انني اجهدت نفسي ذات مرة فاشتريت موزة لطفلي الصغير والبالغ من العمر انذاك سنتين تقريبا لكنه رفض تناولها بل خاف منها بعد ان قشرتها

لم يكن العراق من احدى جمهوريات الموز في اميركا اللاتينية او الاسوية او حتى الافريقية لكن الموز يصلح ان يوثق بعضا من صفحات تاريخه وتاريخ شعبه .

لا اود ان اترك الموضوع من دون ان اذكر بصاحبي الذي نصحني بالواقعة، اذ انه ابتلي بالكثير من العلل، تلك التي حرمته تناول الكثير من الاطعمة ومن ضمنها الطلح المنضود ....واشك انه سيلقاه في الاخره ، فقد ترك اليمين واصحابه والطلح وشرابه واستدار صوب اليسار، اما الواقعة فقد جاوزها باحثا في شان من شؤون الحور العين .لكنه اصبح قادرا ان يجيب على سؤال مهم يخشى كثير من العراقيين ان يسألوا به ‘هل بامكانك ان تتعرف الى انواع من الفاكهة غير ما ذكر في الكتاب، ليس منها الطلح المنضود؟...لقد كان ثمن الموز باهضا ومن المؤكد ان ثمن وفرته زاد بكثير على كل املاك الشيخة، موزة والشيخ بن لادن وشيوخ سوق الشيوخ..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1486 الجمعة 13/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم