أقلام حرة

في مطار البصرة الدولي / ضياء ألهاشم

إلا أنها كانت أول  سفرة لي عبره. لم تمر سوى لحظات على وصولي المطار، حتى سارعت مستفسرا من موظفي الاستعلامات عن  كيفية الحصول على بطاقة الصعود للطائرة . ولشدة استغرابي من عدم وجود موظفي شركات الطيران في المطار، اللهم باستثناء موظف الخطوط الملكية الاردنيه، فكان سؤالي لابد منه، إذ أن جميع مطارات العالم تختلف بتقاليد عملها عن تلك التي وجدتها في مطار البصرة.

تواجهك لوحات الاستعلام عن مواعيد الرحلات، وصولها وإقلاعها، في أي مطار مع توزع موظفي جميع الخطوط  العاملة في مكاتبهم لغرض خدمة المسافر عند أول دخولك لأي مطار بالعالم، وفي مطار البصرة الدولي تأخذ عقلك  الحيرة حيث لا يمكنك الدخول لشحن حقيبتك والحصول على بطاقة الصعود للطائرة بصورة مباشرة حتى تسمع  صوت خافت يعلن بالسماح بذلك، ولك أن  تأخذ الحذر عندما تحتاج الذهاب للحمامات، فليس بمقدورك سماع ذلك  الصوت وأنت هناك، رغم أن الحمامات لا تبعد سوى بضعة أمتار عن مصدر انبعاث التنبيه.

وبتشنج واضح وتعال مسرف واستهجان من استفساري البريء، يبادر موظف الاستعلامات بالرد بعصبية غير مبررة وهو لا يعلم بأنني أسافر عبر مطار البصرة أول مرة . أعود أدراجي لأخذ محل في أحد المقاعد وأستريح من عناء التفكير بالتأخير المؤكد الذي سينتظرنا نحن المسافرين على متن أحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية ولا  نعلم كم ساعة سيستغرق وصول الطائرة من بغداد للبصرة فهي نفسها التي ستنقلنا إلى دمشق. بقيت أعد الساعات  ساعة تلو أخرى حتى امتدت منذ دخولي المطار صباحا الساعة التاسعة وحتى أعلامي من قبل موظف آخر كان في  الاستعلامات بأن الطائرة سوف تأتي من بغداد الساعة الرابعة عصرا بدلا من الساعة الثانية عشرة ظهرا.

 كنت ظمأنا وقلقا ومنزعجا من أن حالة البلد هذه إن استمرت على هذا المنوال ستفقد الأجيال الثقة  تماما  وتكفر مرارا بشيء أسمه السياسة وتبقى تلعن بلا مبالاة أي سياسي سواء كانت لديه النية بالعمل بجدية تامة من أجل البلد  أم لم يكن مؤهلا أصلا...

 تطلعت لاشتري شيئا أروي به عطشي نحو كشك في آخر طرف من القاعة ولكنني وجدته فارغا من دون بائع مثل مكاتب شركات الخطوط  التي لا يمكث فيها موظفيها في المطار ذاته وكذلك الحال بالنسبة لموظفي الاستعلامات الذين يجولون ويتجولون بالمطار كيفما شاءوا وحتى عند لحظات بقائهم بمكان عملهم فالحديث عن تجاربهم خارج العمل هو ديدنهم ودينهم.

عدت أدراجي مرة أخرى لمكان قريب ألقيت به جسدي المتعب، وإذا بيَ أمام شخص يرتدي بدلة سوداء  تنتفخ جيوبها الملئى بأشياء كثيرة، وبدت من ملامحه صفاته تظهر ضعف شخصيته وبتصرفاته مع الموظفين واهتماماته وتركيزه على جانب دون آخر وكأنه وهو يتمشى بطريقا مخولا في صالة المطار وعند كل تحرك يعود لإحدى الموظفات ليبلغها وهي تجلس خلف منضدتها في صومعتها عند الاستعلامات  ما قام به أو أعطى أمرا ما أو أي معلومة تسلمها أو أبلغ بها وهي تستقبل منه كل ذلك دون أدنى اكتراث منها . أنه مدير عمليات المطار . قلت في نفسي أراه يتبختر بمشيته وهو مهتما بالنظر لهندامه واضعا كلتا يديه في جيوب بنطاله وهو يسير مرة بخطوات سريعة وأخرى متثاقلة وجل غبطته أن ينقل ما عرفه من أخبار تتوارد عليه عبر الهاتف الموجود في الاستعلامات فيبثه وهو سعيدا في أذن تلك الموظفة التي يدعوها بالحجية..!

الحجية موظفة استعلامات تبدو على ملامحها قوة شخصيتها فهي ابنة الأربعينات وكل الثقة التي تستمدها من عملها أنها تتحدث جملة تكررها بالعربية وبالانكليزية لتعلن عن بداية الرحلة بأشعار المسافرين بضرورة تأشير بطاقات سفرهم عند موظفي شركات الطيران للحصول على بطاقة الصعود للطائرة، لكنها في نفس الوقت قليلة الكلام ومستمعة جيدة، تلهي نفسها بلعب لعبة ورق القمار ولكن من على شاشة جهاز الحاسوب القديم الموجود أمامها وتشارك أحيانا بالنقاشات التي تدور حول عملها وخصوصا عن حليَة لعب القمار من عدمه وتتساءل هل هو حرام أم حلال ومع النقاش تستمر مستعرضة مهارتها في اللعب.

جميع الرحلات المتوجهة من مطار البصرة كانت تشير لها لوحة الكترونية صغيرة هيَ باتجاه خمس مدن كانت بغداد واحدة منها والبقية عمَان ودمشق ودبي وجده، ومعظمها عبر بوابة واحدة، بوابة رقم اثنان .ومن لحظة دخولك للمطار فأنت ملزم بالخضوع للتفتيش عبر ثلاثة أجهزة تمر منها تباعا حتى دخولك بوابة المغادرة لركوب الطائرة.

بطاقة الصعود للطائرة لا تحتوي على رقم المقعد وليس فيها بالمرة أي رقم أو حرف سوى أنها ورقة كارتونية ملونة بلون أزرق وأبيض، يطلبها منك نفس موظف الاستعلامات حين يأتي دوره الآخر في التحكم ببوابة الصعود  إذ الذي يثير الاستغراب أن نفس الموظف يقوم بمهمتين في ذات الوقت، فمن الجلوس خلف طاولة الاستعلامات  للوقوف في بوابة دخول المسافرين نحو الطائرة . الموقف المتواضع للمدير والذي أثار انتباهي هو جل حرصه منصب على توجيه عمال النظافة نحو العمل على عدم ترك أي موضع في صالة انتظار المسافرين أو في الحمامات بدون تنظيف وقد اخرج من جيب سترته قشر برتقال متيبس وهو يشير من خلاله  بكلامه كونه مهتم وبدرجة عالية من التواضع والعناية بنظافة المطار رغم أنه يشغل منصب مدير المطار ..!

 تأخرت الطائرة ولم نركب إلا بعد حلول الساعة الخامسة والنصف عصرا دون الالتفات إلى حاجة المسافرين خاصة  الإنسانية كحاجتهم للحمامات بعد ساعات من الانتظار قضوها في بوابة المغادرة الخالية من أي حمام أو مرافق صحيَة وفيهم الكهل والطفل والمرأة، ولم تقدم لهم حتى وجبة أكل خفيفة أثناء التأخير أو شربة ماء في قيض لاهب وصلت معدلات درجة الحرارة فيه أعلى  مستوياتها في شهر آب حيث يستنزف جسم الإنسان السوائل عرقا فتدق أجراس العطش سراعا معلنة حالة الطوارئ .

وما أن وجدنا مقعدا فارغا وجلسنا حتى تسمر أحد المضيفين العتاة وكرش بطنه متدلي رغم طوله الفارع متخذا من  الممر بين المقاعد موقعا يعيق حركة بقية المضيَفات اللاتي أردن القيام بعملهن بصورة سلسة وخدمة المسافرين على أفضل وجه والسبب بدون عجب أنه كان يريد مجاذبة أطراف الحديث طول الرحلة مع شخص من معارفه وبقية أفراد عائلته المنتشرين ذات اليمين وعلى الشمال وكأنه راكبا في أحد باصات الأمانة وليست طيارة...!  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1496 الاربعاء 25/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم