أقلام حرة

هل من متجرِّعٍ ثانٍ لـ السُمِّ في إيران؟!

وإذا كانت الانتخابات العامة من جنس القيم والمبادئ التي يقوم عليها النظام الديمقراطي فلا بدَّ لها من أن تكون الكاشف الذي به يُكْشَف عن إرادة الشعب، أو المرآة جيِّدة الصقل التي فيها تنعكس تلك الإرادة؛ أمَّا الديمقراطية، بأوجهها المختلفة، وبما تقوم عليه من قيم ومبادئ، فهي التي بفضلها يمكن، ويجب، تطوير الإرادة السياسية الشعبية، فهذا هو التحدِّي الديمقراطي الأعظم؛ ذلك لأنَّ الانتخابات بحدِّ ذاتها ليست سوى الكاشف؛ ولا شكَّ في أنَّ المكشوف عنه، ولجهة ماهيته ومحتواه، يظل هو الأهم، فلطالما رأيْنا ملايين الناخبين يَعْبرون مراكز الاقتراع، مدلين بأصواتهم، ليختاروا بحريةٍ ما لا يمت بصلة إلى مصالحهم الحقيقية الواقعية؛ أوَلَم نعاين ذلك في الانتخابات العامة العراقية؟!

لِنَدْخُل من هذا المَدْخل إلى إيران، وانتخاباتها الرئاسية العاشرة، التي بفضل خواصها الجديدة استطيع القول إنَّ الجمهورية الإسلامية في إيران عَرَفَت منذ 30 سنة نوعين من الانتخابات الرئاسية، أحدهما هو الانتخابات الأخيرة، والآخر هو سائر الانتخابات.

لو سألْتَ أي مواطن عربي عاين كل الانتخابات الرئاسية العربية، وعانى ما عانى منها، ومن عواقبها، عن خير مقياس يقيس به الحيوية الديمقراطية والسياسية لتلك الانتخابات، على افتراض وجودها، أو وجود نزر منها، لأجاب على البديهة قائلاً: إنَّه الترشيح ونظامه، فالانتخابات الرئاسية (مع أنني أرى الحكومة البرلمانية تتفوَّق على الحكم الرئاسي ديمقراطياً) تفقد معناها أو منطقها الديمقراطي إذا لم يَخُضْ معتركها مرشَّحون (وليس مرشَّحاً واحداً أحداً) متنافسون تنافساً حقيقياً متكافئاً.

هذا المقياس، وعلى أهميته، لا يكفي وحده، فـ نسبة مشاركة الناخبين في الاقتراع هي أيضاً مقياس جيِّد ومهم لـ الحيوية الديمقراطية والسياسية للانتخابات، وللنظام الانتخابي برمَّته.

في الديمقراطية الكبرى في العالم، أي الولايات المتحدة، نرى، على وجه العموم سلبية شعبية انتخابية كبيرة، فإنَّ نسبة كبيرة، وكبيرة جداً، ممَّن يحق لهم الاقتراع يفضِّلون ملازمة منازلهم على التوجُّه إلى صناديق الاقتراع؛ ولا شكَّ في أنَّ ضعف الحافز أو الدافع الانتخابي لدى هذا الجمهور الواسع من الناخبين هو بحدِّ ذاته دليل على ضعف الحيوية السياسية والديمقراطية للانتخابات، وللنظام الانتخابي؛ ولن ينال من قوَّة هذه الحقيقة ما يُساق من مبرِّرات، غايتها تجميل هذه الظاهرة، وضمِّها هي أيضاً إلى ظواهر الازدهار الديمقراطي!

في إيران، أي في انتخاباتها الرئاسية العاشرة لم نرَ مرَّشحاً رئاسياً واحداً لا غير؛ وإنَّما أربعة مرشَّحين.

 

كانوا أربعة مرشَّحين؛ ولكن..

كانوا في الأصل 475 (بينهم 42 امرأة) شخصاً سجَّلوا أسماءهم للمشاركة في الانتخابات الرئاسية؛ غير أنَّ هيئة نافذة تسمَّى مجلس تشخيص مصلحة النظام شطبت كل الأسماء بدعوى عدم أهلية أصحابها، مبقية على أربعة منهم فقط، أهمهم نجاد وموسوي، وكأنَّ هؤلاء المرشَّحين الأربعة يعكسون توازن القوى في داخل تلك الهيئة (غير المنتخَبة شعبياً) والتي تملك وحدها سلطة تقرير من يحق له أن يكون مرشَّحا لانتخابات الرئاسة، مع أنَّ منصب رئيس الجمهورية في إيران، والذي يحتل المرتبة الثانية لجهة أهميته بعد منصب المرشد الأعلى، لا يملك من السلطة الفعلية والحقيقية في الجمهورية الإسلامية إلاَّ ما يؤكِّد وجود بون شاسع بينه وبين المنصب الأوَّل، الذي يشغله رجل دين غير منتخَب، هو أيضاً، من الشعب.

475 إيرانياً ظنَّ كل واحد منهم أنَّه يمكن أن يحظى بقبول مجلس تشخيص مصلحة النظام لإدراج اسمه في قائمة المرشَّحين؛ ولكن هناك مئات غيرهم لم يسجِّلوا أسماءهم خشية أن يرفضهم المجلس.

من أراد أن يرى النصف الفارغ من الكأس يمكنه أن يدَّّعي بأنَّ وجود هذا المجلس (الديني غير المنتخب شعبياً) وعمله، وطريقة عمله، وما يتمتَّع به من سلطات وصلاحيات، هي أمور تدلُّ جميعاً على انتفاء، أو ضعف، الديمقراطية على مستوى الترشيح، وكأنَّ المرشَّح الرئاسي الواحد موجود إيرانياً، وإنْ تعدَّد.

ولعلَّ هذا الفرق في درجة اللون، وليس في اللون نفسه، بين المرشَّحين الأربعة، أو بين نجاد وموسوي على وجه الخصوص، هو ما سمح للرئيس أوباما بأن يبدو مُقْنِعاً في زعمه أنْ لا فرق يُعْتدُّ به بين المرشَّحين (نجاد وموسوي) حتى تتشجَّع إدارته على إظهار ميل إلى أحدهما.

أمَّا من أراد رؤية النصف الآخر، أي الممتلئ، من الكأس ذاته فإنَّ في مقدوره أن يدَّعي بأنَّ قَصْر الترشيح لانتخابات الرئاسة على أربعة أسماء لم يمنع مشاركة نحو 40 مليون ناخب، أي ما نسبته 85 في المئة ممَّن يحق لهم الاقتراع، في الاقتراع.

وبما يوافِق هذه الطريقة في النظر إلى الأمور وتقويمها يمكن أن يتساءل أحدهم في استغراب عن أهمية وجود 40 مرشَّحاً مثلاً، بعضهم من العلمانيين مثلاً، إذا ما كان المرشَّح نجاد قد نال نحو 24 مليون صوت، والمرشَّح موسوي نحو 14 مليون صوت؛ ولو أنَّ نسبة غير المشاركين في الاقتراع كانت هي 85 في المئة لصحَّ الزعم بأنَّ نظام الترشيح المعمول به في إيران (عبر مجلس تشخيص مصلحة النظام) قد نال، وينال، كثيراً من قوَّة وحيوية نظامها الديمقراطي.

وإذا كان لي أن أتحدَّث عن هذه الأرقام والنِسَب بما يتَّفق مع وجهة نظري، التي عبَّرتُ عن بعضٍ منها، في ذلك المَدْخَل، لَقُلْتُ إنَّ هذا يُظْهِر ويؤكِّد الفرق الوظيفي بين الانتخابات وبين محتواها من الديمقراطية، فـ الانتخابات العامة هي الكاشِف الذي به نَكْشِف عن إرادة الشعب مثلما هي عليه؛ أمَّا الديمقراطية، بأوجهها المختلفة، وبما تقوم عليه من قيم ومبادئ، فهي أداة التطوير لتلك الإرادة، فالأهم من إماطة اللثام عن الإرادة الشعبية، عبر الانتخابات، هو أن يتسلَّح المجتمع بحقوق وحرِّيات ديمقراطية في صراعه من أجل إحلال مزيد من التوافق والانسجام بين إرادة الشعب ومصالحه الحقيقية والفعلية، والتي كثيراً ما تُحْجَب عن أبصاره وبصائره بأنواع كثيرة من الوعي الفاسد.

المرشَّح الرئاسي الخاسر (على ما يقال رسمياً في إيران) موسوي لا يملك الدليل الرقمي أو الحسابي على صدق زعمه أنَّه هو الفائز؛ ولقد ادَّعى الفوز حتى قبل فرز الجزء الأكبر من الأصوات.

معظم ما يملك من أدلة هو من النوع المنطقي؛ وبقيته الباقية هي من قبيل أنَّ كثيراً من مؤيِّديه لم يتمكَّنوا من الإدلاء بأصواتهم؛ لأنَّ الطرف الآخر، مع من يقف وراءه، أعاق تصويتهم، وأنَّ كثيراً من مراكز الاقتراع قد أُبْعِد عن عيون مراقبيه.

في أدلته المنطقية، أي في معظم أدلته، يزعم موسوي أنَّ غالبية سكان المدن، وفي مقدَّمها العاصمة طهران، تقف إلى جانبه، وتعارِض خصمه نجاد، وأنَّ نحو 70 في المئة من المشاركين في الاقتراع هم من المدن، فكيف والحال هذه (يتساءل موسوي في زعمه) يفوز نجاد بنحو 63 في المئة من الأصوات؟!

وقد اتَّخَذ نائب الرئيس أوباما (جو بايدن) من هذا الدليل المنطقي المزعوم سبباً للتشكيك في صحة وشرعية النتائج الرسمية المُعْلنة للانتخابات، مضيفاً من عنده دليلاً منطقياً آخر جاء في قوله إنَّ حكومة تقمع على هذا النحو المتظاهرين سلمياً احتجاجاً على تلك النتائج هي حكومة لا رادع يرعها عن تزوير نتائج الانتخابات.

والآن، يوشك الصراع في إيران أن يتخطَّى نقطة اللا عودة، فمعسكر خامنئي ـ نجاد حسم أمره، مؤكِّداً بما لا لبس فيه أنَّ انتخابات الرئاسة العاشرة لن تُعاد، وأنَّ نجاد هو الذي فاز بولاية رئاسية ثانية، وأنَّه فاز على موسوي بفارق 11 مليون صوت، وأنَّ هذا الفرق الهائل في عدد الأصوات يَعْجَز أي تزوير عن إحداثه، وأنَّ الجمهورية الإسلامية التي يقودها خامنئي لا يمكن إلاَّ أن تكون منزَّهة عن تهمة التزوير، وأنَّ هذا التزوير، أو ما يشبهه، إنْ حدث فلا يمكن أن يحدث إلاَّ على نطاق ضيِّق محدود، وبما لا يؤدِّي إلى هذا الفرق الهائل في عدد الأصوات بين المرشَّحَيْن.

أمَّا معسكر موسوي ـ كروبي ـ رفسنجاني فقد أصرَّ على أن يفهم الانتخابات، إجراءً ونتيجةً، بما ألْزَمه الاستمساك بمطلب واحد لا غير هو إعادتها (وبإشراف مختلف).

وهذا الصراع الانتخابي بين نجاد وموسوي كان يمكن أن يظل هامشياً ثانوياً، وتحت السيطرة، لو لم يَظْهَر ويتأكَّد أنَّه صراع يستمدُّ معظم طاقته من الصراع في داخل المؤسسة الدينية الحاكمة فعلاً.

ولو لم يكن على هذه الحال، وبهذا العمق، لَمَا تجرَّأ موسوي، مهما كان عدد الأصوات التي فاز بها، على تحدِّي إرادة وسلطة وقرار ومكانة وهيبة المرشد الأعلى، ولَمَا تجرَّأ على أن يتبادل مع خامنئي الاستعداد للشهادة.

ومع أنَّ موسوي حرص على أن يؤكِّد، مراراً وتكراراً، استمساكه بأُسس الجمهورية الإسلامية، وبمطلب إعادة الثورة الإسلامية إلى مسارها الخميني، فإنَّ جزءاً كبيراً من جمهوره، ومن القوى التي تقف وراءه، لا يفكِّرون في طريقته، ولا يشاطرونه وجهات نظره، ولا يستهدفون تحقيق الأشياء التي يريد هو تحقيقها، وكأنَّهم يتَّخِذون منه (مؤقَّتاً) عباءةً لهم.

وموسوي، ولو سلَّمنا بأنَّه هو الخاسر في انتخابات الرئاسة العاشرة، لا يمثِّل ويقود فئة ضئيلة من الإيرانيين، فمن ورائه يقف، أو يسير، نحو 14 مليون إيراني، قسمهم الأكبر من العاصمة والمدن، ومن الشباب الذين لديهم من المطامح والمطالب والميول ما يُكْسِب ثورته محتوى ثقافياً ليس من جنس المحتوى الثقافي للجمهورية الإسلامية.

ولو أنَّ الصراع لم يكن بهذا العمق، وعلى هذه الدرجة العالية من الخطورة، لَمَا اضطَّر خامنئي إلى أن يلعب (ويحرق بالتالي) أهم ورقة من أوراق قوَّته بتبنِّيه المُعْلَن لنجاد، ولوجهة نظره، مخيِّراً الطرف الآخر ما بين رفع الراية البيضاء وتحمُّل مسؤولية وعواقب تحدِّي إرادته وسلطته.

وهذا الواقع السياسي الجديد الناشئ عن انتخابات الرئاسة العاشرة، وما ينطوي عليه من مخاطر، يتحدَّى المؤسسة الدينية الحاكمة أن تدير، أو أن تسوي، النزاع بين أركانها وأجنحتها، بما يمكِّنها من الاحتفاظ بسلطتها الواحدة الموحَّدة، وإلاَّ خرج الصراع والتطورات والأحداث عن سيطرتها، ووقعت إيران في حفرة الفوضى البناءة، لتلقى المصير الذي لقيه العراق أو الاتحاد السوفياتي، فتجارب التغيير التي يرعاها الغرب لن تتمخَّض حتى الآن إلاَّ بما يؤكِّد أنَّ الجديد، في هذا الزمن، لا يأتي إلاَّ بما يقوِّي الحنين إلى القديم!

مع أنَّ، أو لأنَّ، أوباما الرئيس لا يمكنه أبداً أن يُنْكِر فضل النظام الديمقراطي عليه، أو أن يشكِّك في قوَّة وحيوية المبادئ التي يقوم عليها، وفي كفاءة النظام الانتخابي، المُشْتق من تلك المبادئ، في إظهار وكشف إرادة الشعب، فقد حرص، إذ زار القاهرة باحثاً عن مصالحة مع الإسلام والمسلمين، على إظهار وتأكيد اختلافه عن سلفه، ممثِّل المحافظين الجدد، الرئيس الجمهوري جورج بوش، بقوله، في خطابه، إنَّ عالمية القيم والمبادئ الديمقراطية لا تتعارض، بل تتوافق، مع حق كل شعب في أن يزاوِج بينها وبين خصوصيته الثقافية والاجتماعية..، وإنَّ الولايات المتحدة، في عهده، لن تَكْتُب الديمقراطية على غيرها، وكأنَّه اكتشف أنَّ الأمم الديمقراطية تقوِّض ديمقراطيتها بأيديها إنْ هي سعت في إسباغ نعمة الديمقراطية على غيرها، من غير طريق قوَّة المثال، أي من طريق الضغوط والحملات العسكرية، أو أراد أن يقول إنَّ سلفه كان يستذرع بالديمقراطية فحسب.

هذا البيان الديمقراطي للرئيس أوباما أثلج صدور كثيرٍ من الحكومات في العالمين العربي والإسلامي، والتي طالما توعَّدتها إدارة الرئيس بوش بـ الإصلاح السياسي والديمقراطي، توصُّلاً إلى إخضاعها لمشيئتها في أمور وقضايا لا تمتُّ إلى هذا الإصلاح بصلة.

ثمَّ جاءت الانتخابات الرئاسية الإيرانية العاشرة بأسئلة وتساؤلات شقَّ على إدارة الرئيس أوباما أن تجيب عنها بما يوافِق ذلك البيان الديمقراطي الجديد؛ واحسب أنَّ أهمها هو هل النظام السياسي في إيران هو من ذاك النمط الذي فيه، وبه، تَظْهَر وتتأكَّد الخصوصية القومية والثقافية.. للقيم والمبادئ الديمقراطية (العالمية القَلْب)؟.

ولكن، دعونا نضرب صفحاً عن السؤال وإجابته، فثمة سؤال أهم منه بكثير، لجهة الحاجة إلى إجابته.. إجابة ديمقراطية، فالقول بحقُّ كل أمَّة في أن تقرِّر مصيرها، بحرية تامة، يفقد معناه الديمقراطي إذا لم يُجَب إجابة ديمقراطية عن السؤال الآتي: هل تتأكَّد الديمقراطية أم تنتفي إذا ما اختار شعب ما، بحرية تامة، نظام حكم لا مكان فيه لكثير من القيم والمبادئ الديمقراطية الغربية، أو العالمية؟.

قبل إجابة هذا السؤال، وتوصُّلاً إلى إجابته، لا بدَّ من فَهْم مختلف، وسوي، لجوهر وأساس العلاقة بين الديمقراطية والحرية، فـ الحرية أوسع وأشمل وأعم من الديمقراطية، التي هي أوسع وأشمل وأعم من الديمقراطية الغربية، ولو سعى كثير من القائلين بها إلى إظهارها على أنها عالمية القلب والقالب، أو عالمية القلب فحسب.

عن خطأ، ليس بالخطأ، وعن سوء فهم، ليس بسوء فهم، يوصف النظام الديمقراطي بأنَّه الطريق إلى كل تغيير كبير، إذا ما ظَهَر أنَّ الشعب (عبر غالبية المقترعين) يريده ويحبِّذه.

أمَّا التجربة الواقعية والتاريخية لـ الديمقراطية فلا تُثْبِت وتؤكِّد إلاَّ أنَّ الديمقراطية وسيلة للاحتفاظ بنظام الحكم من حيث الجوهر والأساس.

في إيران يتَّخِذ نظام الحكم من ولاية الفقيه أساساً له؛ ولقد ثَبُت لديه أنَّه يملك من القوَّة والثقة بالنفس ما يسمح له بأن يتِّخِذ من الديمقراطية والانتخابات وسيلةً للبقاء، وللاحتفاظ بأساس وجوده.

وإنَّه لمن الوهم الخالص أن نفهم الديمقراطية الغربية على أنَّها شيء منزَّه عن هذا العيب أو الخلل، فالديمقراطية في الغرب يمكن أن تصبح، في ساعات معدودة، أثراً بعد عين إذا ما تأكَّد أن الشعب يريد تغييراً يعصف بالمصالح الوجودية لأرباب النظام الديمقراطي.

إذا كانت ولاية الفقيه هي جوهر النظام الديمقراطي في إيران، فإنَّ ولاية الرأسماليين الطبقية هي جوهر النظام الديمقراطي في الغرب؛ والمفاضلة بين النظامين الديمقراطيين يجب ألاَّ يخالطها وهم أنَّ الديمقراطية، على أهميتها، يمكن أن تكون أكثر من كونها وسيلة للاحتفاظ بنظام الحكم من حيث الجوهر والأساس، فكلتا الولايتين، ولاية الفقيه في إيران، والولاية الطبقية الرأسمالية في الغرب، هي المحور الذي يدور حوله النظام الديمقراطي.

لستُ، ولن أكون، مع ولاية الفقيه، أو ما شابهها من أنظمة الحكم الديني، ولا مع هذا النمط من الديمقراطية الذي أنْتَجَتْه؛ ولكنني لا يمكن ألاَّ أن أقف ضد كل هذا النفاق الديمقراطي الغربي، الذي أَنْظُر إلى ظهوره، أو سطوعه، على أنَّه نتيجة مهمة لانتخابات الرئاسة الإيرانية العاشرة.

بعض الأعضاء الجمهوريين النافذين في مجلس النواب حملوا على الرئيس أوباما لكونه لم يرَ في المشهد الإيراني سوى الجدل (أو الحراك) الحيوي، فالإيرانيون، على ما قال أحدهم، يعاملون بوحشية، ويقتلون في شوارع طهران؛ والصحافيون لا يستطيعون، بسبب كثرة القيود، تأدية عملهم؛ ولا بدَّ للرئيس أوباما، بالتالي، من ينتهج سياسة تشبه كثيراً سياسة المحافظين الجدد، ولو كانت العاقبة إحباط مساعيه في أفغانستان والعراق، والتي لا يمكنه أن يتوقَّع نجاحاً لها إذا ما أغضب خامنئي ونجاد على وجه الخصوص.

ومع أنَّ الرئيس أوباما اضطَّر إلى أن يتحدَّث عن المعارضة الإيرانية بشيء من المجاملة الديمقراطية فإنَّه أبدى كثيراً من الحرص على ألاَّ يقطع شعرة الحوار مع إيران، والذي له مصلحة فيه تفوق أضعافاً مضاعفة مصلحته في أن ينحاز إلى جانب المعارضة الإيرانية كانحياز المحافظين الجدد، والذي هو في حقيقته انحياز إلى مصلحتهم في أن يفشل أوباما في أفغانستان والعراق على وجه الخصوص.

ولقد حاول الرئيس أوباما أن يُسلِّح موقفه، الذي لا يرضي المحافظين الجدد، وغيرهم من معارضيه، بمزاعم من قبيل أنَّ موسوي لا يقلُّ عن نجاد عداءً للولايات المتحدة، وأنَّ انحياز إدارته المُعْلَن والصريح إلى جانب المعارضة الإيرانية، أو الإصلاحيين الإيرانيين، هو خير خدمة يمكن أن يسديها إلى خصوم تلك المعارضة، أو هؤلاء الإصلاحيين. وكاد الرئيس أوباما أن يعترف بأنَّ ضرراً كبيراً يمكن أن يلحق بـ الديمقراطية والإصلاح إذا ما تبنَّت الولايات المتحدة الديمقراطيين والإصلاحيين في العالمين العربي والإسلامي، فإدارة الرئيس بوش، على وجه الخصوص، نجحت أيَّما نجاح في جَعْل الشعوب العربية والإسلامية تفهم الليبراليين والإصلاحيين الجدد على أنَّهم قوى تتسربل بـ الديمقراطية والإصلاح السياسي، توصُّلاً إلى ما يعود بالنفع والفائدة على الحليفين الإستراتيجيين، أي إسرائيل والولايات المتحدة.

وإذا كان الرئيس أوباما قد بدا متخطِّياً متجاوزاً لخطاب العداء الجمهوري لإيران فإنَّ قادة الاتحاد الأوروبي بدوا، في مواقفهم المٌعْلَنة، استمراراً وامتدادا لهذا الخطاب، فحملوا بشدة على قمع حرية التعبير، والتطاول على حق الإيرانيين المعارضين في التظاهر السلمي.

أهو بكاء على الديمقراطية وحرية التعبير والحق في التظاهر السلمي للمعارضين.. وعلى خسارة موسوي؟

كلاَّ، فهؤلاء لا يقفون إلى جانب موسوي والمعارضة الإيرانية من أجل أن يُكْرَه نظام الحكم في إيران على تلبية مطلب إعادة الانتخابات، فيفوز موسوي، ويبدأ عهد سياسي جديد في إيران، تزدهر فيه أكثر الحقوق والحرِّيات الديمقراطية. إنَّ الغاية الكامنة في انتصارهم اللفظي للديمقراطية في إيران هي أن يروا الفوضى البناءة في تجربتها الإيرانية.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1086  الاثنين 22/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم