أقلام حرة

هجرة المبدعين العراقيين وأسبابها / وائل المرعب

ليس من اليسر ملئه ببدائل لها نفس قوة الفعل الأبداعي، ولكنّي حين أدمنتُ (مع الأسف) على إستخدام ال ( facebook) وتوسعّت دائرة الأصدقاء، ذهلتُ للعدد الكبير من الشعراء والرسامين والقصاصين والروائيين والمسرحيين والموسيقيين العراقيين الموزّعين في بلدان العالم، وأجريتُ عملية مسح في ذاكرتي للأصدقاء منهم الذين لا زالوا في الداخل فلم اجد سوى النزر القليل الذي يعدّ على أصابع اليدين، وحاولت أن احصر الأسباب الرئيسية التي دفعتهم الى ترك الوطن وإختيار دول المهاجر لتكون الملاذ الأخير لهم ولعوائلهم، وجدتُ إنها تنحصر ب :

أولا ــ  قسم كبير من الفنانين الذين تمتّعوا ببعثات على حساب الدولة أو على حسابهم الخاص خلال فترة السبعينات، مكثوا هناك في الدول التي يدرسون بها بعد أن أنهوا دراستهم وبعد أن اغوتهم حياة الحرية والرفاهية والتطوّر التي ذاقوا حلاوتها وتمتّعوا بفضائلها .

ثانيا ــ بعد أن تأكّد للكثيرين من المبدعين العراقيين على إختلاف مواهبهم المحسوبين على اليسار العراقي إن مسار الجبهة الوطنية المزعومة (الجبهة الخديعة) تسير بخطى حثيثة نحو نهايتها ’ وبدأت ملامح حملة المطاردات والتصفيات، وجدوا عدة منافذ للهروب قبل إستفحال الحملة وإستطاعوا بمشقة الوصول الى بلاد الغربة وأستقرّوا هناك منذ ذلك التأريخ يحدوهم أمل بالعودة في حالة تغيير أو إسقاطه، وأغلبهم إنخرط في صفوف المعارضة السياسية، وحين حصل التغيير فعليّاً عام 2003 عاد قسم كبير منهم في البداية على أمل أن يعيد نشاطه في عراق جديد ديمقراطي ليبرالي علماني معاصر، لكنّهم سرعان ما أكتشفوا أن السيناريو الذي أعدّته السياسة الأمريكية لأعادة تأسيس نظام حكم جديد بالعراق، بعيداً عن تصوّراتهم خاصة وقد وضحت الصورة جليّة أمام أنظارهم إذ سيطرت الأحزاب الدينية والطائفية على مجمل المشهد الحياتي العراقي وفرضت هيمنتها على كل مفاصل الدولة بحيث شجّع وسمح كرد فعل محسوب للأرهاب الأسلامي والعروبي الدموي وبقايا ازلام النظام القمعي السابق أن يعيد ترتيب صفوفه ليبدأ بمسلسل الهجمات التخريبية الدموية الهائلة، ممّا دفع بهؤلاء المبدعين أن يسارعوا للعودة من حيث أتوا .

ثالثا ــ حينما وضعت حرب الثمان سنوات المدمّرة والمفتعلة مع إيران أوزارها، وبردت فوهات المدافع وتوقّفت سرف الدبابات عن الخوض في الوحول وخرجت تتنفس الهواء النقي غير الملوّث برائحة البارود من مواضعها التي أدمنت المكوث الخائف فيها، وأنقطع سماع أزيز الطائرات، وبدأت تجف الدماء الحارة التي أريقت على طول جبهة المواجهة، وألتمعت عيون مئات الألوف من الجنود والعساكر بين بكاء على ما فات وضحك لما هو آت، وإنطلقت حناجر النسوة العراقيات تصدحُ دون توقّف بالزغاريد حتّى بحّت أصواتهنّ لفرط ما إختلطت بعبراتهنّ، وإشتعلت سماء المدن العراقية بالرصاص إبتهاجاً وتهليلاً، ظنّ العراقيون خاصة الذين تنحصر مواليدهم من عام 1940 حتى عام 1970 العسكريون أو الملتحقين بقواطع الجيش الشعبي سيء الصيت الذين تحمّلوا مسؤولية وخطر المواجهة والذين يبست سباباتهم على أزندة بنادقهم مترقّبين الموت كل لحظة على طول جبهة تمتد على طول تخوم حدود إيران مع العراق، وكان من ضمنهم الغالبية العظمى من المبدعين العراقيين، إن زمناً جديداً للسلم قد حلّ بالعراق . فراحو يجلون ذاكرتهم علّهم يمسحون ما علق بها من مشاهد الموت والدمار والهلع بعد أن كوّموا أرديتهم الكاكيّة المتربة وأشعلوا فيها النار إبتهاجاً بالنجاة من المحرقة، وبدأوا يعيدون ترتيب أولويات أجندتهم الأبداعية إستعداداً لمعاودة النشاط في مرحلة ما بعد الحرب، ولم تمض سوى سنتان حتى أرتكب النظام الأستبدادي القمعي حماقته الكبرى بغزو الكويت، ونودي على الذين سرّحوا من الخدمة للألتحاق مجددّاَ بالجيش إستعداداً لمواجهة أعتى قوّة في العالم، وحين حصلت أخزى وأكبر هزيمة عسكرية في العصر الحديث نتج عنها دمار هائل لكل البنى التحتية للعراق وما لحقها من أحداث دامية لم يشهد العالم مثيلا لها بعد سحق الأنتفاضة الشعبية التي شملت ثلثي العراق وما ترتّب عليها من نزوح الآلآف الى دول الجوار خشية من أن تنالها أيدي النظام، وبعد أن هدأ كل شيء فتحت حدود الأردن وحدها لأستقبال العراقيين وراحت أسراب المبدعين بمختلف مشاربهم يتوجهّون الى سفارات العالم يطلبون الهجرة وبعد معاناة استمرت سنوات تحقق لهم ذلك، والقسم الآخر إستطاع الوصول الى بلاد المهجر بطرق الدخول غير الشرعي، فأستقروا في تلك الدول بعد ان توثقوا من حقيقة كون النظام لا أمل من بقاءه وإن زواله بات قريباً .

رابعاً ــ أمّا آخر من غادر العراق نحو بلاد الشتات فهم المبدعون الذين لم تتح لهم فرصة الهروب وقسمٌ منهم آثر البقاء خشية من الأغتراب نفسه وما قد يرافقه من حالات فيها من الذل والمهانة ما لا يحتمله، والذين شاهدوا بأمّ أعينهم السقوط المريع لنظام القمع السابق، حيث بادر اغلبهم معاودة نشاطه الاّ أن ما حصل من تهميش متعمّد للثقافة ونشوء الحرب الطائفية التي إستعر أوارها عامي 2005 و 2006 دفعتهم مجبرين لأختيار المهاجر بعد أن أثقلوا جيوبهم بحفنات من تراب العراق علّها إذا ما اختلطت دموعهم به وفاحت رائحته يشعرون بقرب الوطن من وسائدهم واحلامهم المستحيلة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1531 الخميس 30/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم