أقلام حرة

استطلاع: هل يمكن الفصل بين الايدولوجي والإبداعي في الكتابة والممارسة الثقافية عامة؟

 

مقاربة الأيديولوجيا في الرواية

د. عادل ضرغام / ناقد وأكاديمي مصري

يورد آلان روب جرييه في كتابه  (نحو رواية جديدة) قوله  (كتابة الرواية لا  يمكن أن تكون كتابة بريئة)،  وهذه المقولة بداية يمكن أن تشير إلى جزئية مهمة، وهى إن مقاربة الرواية بتجلياتها العديدة لا يمكن أن تنفصل عن المنحى الفكري أو الأيديولوجي، حتى في الروايات التي يمكن أن تكون بعيدة عن ذلك السياق انطلاقا من توجهات إبداعية نظرية .وهذا التوجه ربما يجعل مقاربة الرواية من الناحية الأيديولوجية عملا مشروعا، وتتجلى الرواية – في ذلك السياق – بوصفها مشروعا ثقافيا لا ينفصل – بالضرورة – عن السياسي والاجتماعي .

ومصطلح الأيديولوجية من المصطلحات المزعجة التي يندرج تحتها دلالات عديدة، ولكنه – بالرغم من هذا الإزعاج – يظل مهما في طبيعة التواصل بين الأفراد الذين يحملون توجهات قد تكون متجاوبة أو متباينة، (فطبقا لألتوسير فالممارسة الأيديولوجية مهمة ومركزية بالنسبة لحياتنا، فالأيديولوجية تبنى خبرتنا بالعالم، وتشكلنا في إطار إرتباطنا بهذا العالم، وكذلك تبنى وتشكل إحساسنا بأنفسنا)  

وربما كان لألتوسير تأثير كبير في تشكيل جوانب حدود هذا المصطلح، وتجليه الفكري، ففي الدراسات الخاصة بالأيديولوجية هناك إشارات دائما إلى الوعي الزائف الذي تكونه الأيديولوجية، بوصفها آلية تحجب الحقيقة، وربما ولد هذا التوجه تحت تأثير ماركس، الذي شحن المصطلح بدلالة سلبية،  (ولكن ألتوسير – الذي انطلق من إنجاز ماركس – يرى أن الأيديولوجية حقيقة جديدة، أكثر من دلالتها على حجب الحقيقة، وملاحظة ألتوسير المهمة تتمثل في أن الفردية بوصفها موضوعا تصنع – أساسا - لحمل الأيديولوجية)  

وفي تحديد دلالة مصطلح الأيديولوجيا، يجب أن نشير إلى أن هناك توجهين أساسيين، الأول منهما يجعل هذا المصطلح وثيق الصلة بالأفكار والمعتقدات، التي تجمع أعضاء مجتمع معين أو شريحة خاصة من أعضاء هذا المجتمع  يقفون في موقف معارض أو مباين  لشريحة معينة في إطار ذلك المجتمع،  (فعالمة الاجتماع إميلى دوركهايم ميزت الطريقة أو النهج الأيديولوجي بوصفه نسقا يستخدم الأفكار ليحكم ترتيب الحقائق) 

إن هذه الأفكار أو القيم تشكل سلطة مهيمنة، في طبيعة الحركة أو الفعل أو رد الفعل، للأفراد الذين ينتمون إلى هذا المجتمع أو إلى شريحة منه، بوصفها تشكل نسقا جاهزا للحركة، فيأتي فعلهم أو رد فعلهم متساوقا أو منطلقا من هذه الأفكار،وفي ذلك يقول أحد الباحثين  (كل أيديولوجية تكون إطارا أو بنية، تلك البنية التي تشتغل كعدسة تساعد أعضاء المجموعة لقراءة أو إساءة قراءة الأحداث والنصوص والصور، أو أي شكل من أشكال المعلومات، وبدون هذه القاعدة أو الإطار، أو بدون عدسة الأيديولوجية سنجد صعوبة في قراءة المعلومات والصور والأحداث، وستظل وجهة النظر الفردية غير مفهومة) 

إن التوجه الأول في تحديد الأيديولوجية، يجعل المصطلح وثيق الصلة بجزئيات ثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية، وهذه الجزئيات قد أصّلت وأصبح لها إشعاع وفاعلية، بحيث تبدو محركة ومؤثرة لحركة الأفراد الذين ينضوون في إطارها .

أما التوجه الثاني، فإنه لا ينظر للأيديولوجية على أنها مجرد انعكاس للسياقات السياسية أو الاجتماعية في الواقع، وإنما يلح على حضور العمليات الفكرية لدى البشر، ولهذا يشير بعض الباحثين أن الأيديولوجية هي المعرفة المشتركة .

هذه المعرفة المشتركة، كان لها تأثير في توجيه المصطلح، نحو دلالات أكثر عمقا بعيدا عن دلالته السطحية في التوجه الأول، فجاءت دلالته مرتبطة في إطار ذلك التوجه وثيقة الصلة بعلاقة الإنسان بالعالم المحيط به، والأيديولوجية – في إطار ذلك التوجه – تحاول الإجابة عن أسئلة ترتبط بوضع الإنسان في ذلك الكون،وفق شروطه الوجودية المطبقة في إطار سياق حضاري،  (فالأيديولوجية – كما يقول أحد الباحثين – هي علاقة معيشة بين الإنسان والعالم) 

وربما يكون هذا التوجه مؤثرا في توليد بعض المصطلحات،التي كان لها تأثير فاعل،في شد مصطلح الأيديولوجية إلى دلالات قد تكون أكثر عمقا،مثل مصطلح  (رؤية العالم)، الذي لا يقف عند حدود معاينة وضع الإنسان وفق سياقه التاريخي بوصفه حالة ساكنة،وإنما يستدعي – بالضرورة كما يقول جمال حمداوي- الأحلام والتطلعات التي يحلم بتحقيقها مجموعة أفراد لمجموعة اجتماعية معينة) 

فالأيديولوجية، حين ترتبط بوضع الإنسان الذي ينتمي إلى شريحة معينة، لا تقف عند حدود الإطار الواقعي، وإنما تمتد بالضرورة إلى نسق مثالي يتوجه إليه ذلك الفرد بشريحته الخاصة التي ينتمي إليها، لأن وضع الإنسان في مواجهة العالم في تجربة معيشة يشير إلى عملية فعل وانفعال، من خلال محاولة كل قسيم تطويع الآخر لتوجهاته وأفكاره.

وفي مقاربة الأيديولوجيا في الرواية هناك نسقان،   النسق الأول يقف عند حدود الوعي بهذا السياق الحضاري أو السياق الأيديولوجي، ويتوجه إليه بشكل مباشر، ومن ثم يتم الانتقال إلى النص الأدبي والتعامل معه، كأنه آلة تعكس بشكل مباشر هذه السياقات المختلفة،وفي ذلك السياق يكون الاهتمام منصبا على هذه الجزئيات التي تشير إلى واقع فعلى ملموس، بدون الاهتمام بكيفية تجليها، وفاعليتها في تقديم واقع فني .

والواقع الفني المقدم في الرواية على نحو خاص يختلف – بالضرورة – عن الواقع الحياتي، فالصوت السردي في العمل الروائي – كما تقول إحدى الباحثات – ليس منتج أيديولوجيا، بل يمكن النظر إليه بوصفه أيديولوجيا، لأنه موجود في نقطة الاتصال بين الموقع الاجتماعي والممارسة الأدبية)  

إذن فالأيديولوجية التي يمكن مقاربتها في الرواية، قد تنطلق من معطى واقعي،ولكنها في تجليها وتشكلها يتكوّن لها ملامح خصوصية، تتشكل ملامح هذه الخصوصية من البناء، ومن ثم يجب أن ينصب اهتمام الباحث أو المتلقي على البنيات الشكلية، وليس بالأيديولوجية الواقعية أو التطبيقات الاجتماعية المرتبطة بالعمل السردي .

إن الفارق بين التوجهين في مقاربة الأيديولوجية، فارق ينبع من توجه يرتبط بمقاربة هلامية،تحاول إثبات الترابط بين الموجود في النص الروائي، وبين سياق خارجي، تم تأسيسه سابقا، ويكون الاهتمام مرتبطا برصد ورود هذه الجزئيات، دون إشارة إلى طبيعة تجليها، التي تمنحها مغايرة ما، وتوجه لا ينطلق من جزئيات أسست سابقا، وإنما يحاول معاينة التشكيل  السردي الذي يعطى – بالضرورة نتيجة للممارسة الأدبية – واقعا مختلفا .

وقد ألح كثير من النقاد على قيمة هذا المنحى، ففلاشينوف يقول  (إنه بدون الإشارات اللغوية،لا توجد أيديولوجيا)  وفرانك أوكونور أشار (إلى أن أي فن حقيقي هو – بالضرورة – زواج بين أهمية المادة وأهمية المعالجة الفنية)  

إن هذه الجزئية مهمة،لأنه ليس هناك مضمون ناجز بدون اللغة، ولا يمكن – أساسا – أن نتخيل وجود مدى دلالي دون استحضار اللغة، (فاللغة ليست فقط نظاما للملفات العقلية أو آلية لحمل الأفكار،وإنما اللغة تتكامل مع الفكرة بوصفها عملية استطرادية، اللغة والفكر يشاركان في إنتاج المعرفة .) 

 

كلاديس مطر /  روائية وباحثة سورية

الايدولوجيا  نسق من الآراء و الأفكار و النظريات و هي جزء من الوعي الاجتماعي  الذي يعكس العلاقات الاجتماعية . إنها الزي القديم لكلمة  (ثقافة  ( الرائجة اليوم كالنار في الهشيم في خطابنا اليومي ذلك إن الفكر العربي بقي بعيدا عن استنباط أيدلوجياته الخاصة في خضم تاريخه الطويل من الثقافة التلقينية .

الحق لقد تراجع مفهوم و حتى استعمال كلمة إيديولوجيا مع تراجع الماركسية وسقوط الاتحاد السوفيتي . فهذه الكلمة  التي اعتبرت مصطلحا ماركسيا من الطراز الرفيع بدا أن لها تاريخا آخر يبدأ بعد عصر النهضة الفرنسي خلال فترة حكم نابوليون بونابارت . و  " الأيدلوجيون "   كانوا يعتبرون باختصار " أصحاب النظريات  " مع أن تطبيقها قد سبق زمنيا هذه الفترة إلى القرن السابع عشر . ما هذه الكلمة فهي مستعملة اليوم ضمن طيف واسع وكبير جدا لتشمل كل أشكال الكذب المبرمج إلى أنماط الفكر المحدودة، و من أقصى الماركسية إلى بعض المنظرين المسيحيين . إن التأمل غير المجرب و التفكير الحر للعديد من المجموعات التي تناصر الفلسفات الغريبة و الصعبة و التي هي فوق قدرة العقل و المنطق على المقاربة و التواصل، قد أدت إلى وجود صراعات كثيرة بل و مسالك متطرفة في العديد من المناطق المأهولة في العالم .

لكن هذا في الغرب حقا حيث العلم و ثورات عصر النهضة و التنوير  قد حرروا الفكر الأوروبي من هيمنة الكنيسة وغدا حرا في استنباط أفكاره و نظرياته الخاصة .

أما واقع الحال في الفكر العربي حيث الثقافة برمتها تلقينية بل أنها في كثير من الأحيان فوق النقاش فقد بدا الأمر وكأنه " يحدث في كوكب آخر " حيث القوانين هناك تسمع لوجهات النظر أن تأخذها مداها و تعبر عن نفسها من خلال في ارث من الديمقراطية بدأ يتراكم أفقيا و عموديا الأمر الذي لم يحدث لدينا البتة . إذا أية علاقة بين الإبداع العربي و الايدولوجيا مجسدا في الأدب أو الكتابة !؟  و أية إيديولوجيا نقصد هنا ونحن مازلنا لا نملك هذا الإرث الهام من ثقافة التعددية و قبول الآخر .؟! الإبداع يكمن تماما في تنسيق الإيديولوجيات و غربلتها بما يتناسب مع روح الإنسان كانسان و ليس بما يتناسب مع الثقافة التلقينية لهذا الإنسان.انه عالم مارق حقا و لكننا نحيى فيه بقوة الروح التي لا تريد أن تؤطر أو تؤدلج أو يعاد تشكيلها و صياغتها بحسب نمط ما و إنما بحسب هذا الميل الفطري لديها للحرية .

 

صبيحة شبر / قاصة وروائية عراقية

يختلف الايدولوجي عن الإبداعي في أن الأول يكون مباشر الثاني يكون غير مباشر فالإبداع الذي يهتم بالايدولوجية على  حساب الفن يسقط في المباشرة، ويكون مثل الهتاف وإطلاق الشعارات التي يطلقها صاحب الايدولوجية بشكل سافر يخلو من الجمالية المطلوبة في الفنون، فالأدب الملتزم بقضايا الحق والعدل والفضيلة والإنسان، ينطلق من فكرة يؤمن بصحتها الكاتب، ويدعو القارئ إلى الإيمان مثله بها، ولكن لو قال فكرته بدون أن يسبغ عليها ثوبا جميلا من الإبداع، لكان سياسيا وليس فنانا لهذا قالوا أن الأدب هو الكلام الجميل الموحي القادر على التأثير في المتلقي، وكيف يكون  ذلك التأثير قويا ؟ بالاعتناء بالشكل والمضمون معا، وعدم الاقتصار على احدهما على حساب الآخر .

 

طلال بريون /  مصور فوتوغرافي ليبي

كما تعرف يا صديقي العزيز أن الأيديولوجية هى الفكرة السياسية كتعريف مبسط جدا في حين أن الإبداع وخاصة في الممارسة الثقافية يجب أن لا يكون تحت أي مسمى أو أن يكون تحت سياق معين سياسي أو غير سياسي، ومن هنا ومن جهة نظري الشخصية فأن الكتابة العازفة على وتر فكرى سياسي أو فلسفي معين يصب لمصلحة فكرة ما يخرج من شفافية وموضوعية الإبداع في الممارسة الثقافية، ولكن هذا لا يعنى مطلقا أن الايدولوجى غير مبدع، على العكس من ذلك تماما، فكثيرا من الايدولوجيات وصلت إلى درجات عليا من الإبداع جعلت من ثقافات أمم بأسرها تتبناها لعقود طويلة من الزمن  (ولا أريد أن أضرب أية أمثلة لهذا لأنها واضحة فيما أعتقد)، بالتالي فأن الخيط الفاصل بين الايدولوجى و الابداعى يكون رقيقا ودقيقا في كثير من الحالات .وبمعنى أوسع وأعم يجب أن يكون المبدع في مجال الكتابة والممارسة الثقافية متجردا من عوائق ومأزق الايدولوجية حتى يصل إلى درجة شفافة من الوعي الثقافي الابداعى، وهذا رأى خاص جدا .

 

د  . صبري حافظ /  كاتب وناقد مصري

ليس هناك فاصل بين الأيديولوجي والإبداعي لا في الكتابة ولا في الممارسة. خاصة في هذا الزمن الذي شاع فيه الحديث عن موت الأيديولوجيات، وساد فيه الترويج للغة مقلوبة تخفي عكس ما تصرح به، وتسمي مقاومة المحتل إرهابا، والتصدي للنظم الاستبدادية تخريبا، واستعمار الشعوب تحريرا، والتفريط في الحقوق المشروعة اعتدالا، والتمسك بالثوابت الوطنية تشددا. إن هذه اللغة المقلوبة تتناقض مع كثير من أسس التواصل اللغوي ذاتها، في محاولتها للتعمية على أشع تجليات الأيديولوجية القديمة الجديدة ـ أيديولوجية الاستعمار ونهب ثروات الشعوب في تجلياته الجديدة وتسمياته المغايرة بالعولمة تارة وتحرير الشعوب من حكامها المستبدين أخرى. وكي تتضح المسألة فلابد من معرفة ما هو المقصود بهذين المصطلحين.

فالأيديولوجيا هي صياغة فكرية أو تجريدية لتصور ما للعالم أو وعي ما به. وقد يكون هذا الوعي وعيا زائفا يطلسم على تناقضات العالم ويخفيها، وقد يكون وعيا نافذا مستبصرا يعي تلك التناقضات ويكشفها ويتعامل معها. وقد كشف ماركس عن أن لكل وعي بالعالم، أو لكل أيديولوجيا محتواها الطبقي ومصالحها الاقتصادية، ومحاولتها لصياغة مصالح طبقة ما باعتبارها هي الحقيقة أو التصور الطبيعي للعالم. ومن هنا بدأ مفهوم الوعي الزائف يفت في عضد مفهوم الأيديولوجيا منذ ميلاد هذا المفهوم الجديد. وقد مكننا مفهوم الوعي الزائف ذاك من الوعي بتناقضات الأيديولوجيا وباستراتيجياتها المراوغة، وأكثرها انتشارا ومراوغة في هذه الأيام هي إنكار الأيديولوجا، والقول بعصر موتها ونهاية التاريخ، فكل تنصل من الأيديولوجيات وكل تنكر لها ينطوي على أيديولوجيته المضمرة، ويخفي في طواياها تناقضات الوعي الزائف بالعالم أو الوعي الذي يريد أن يطلسم حقائقه ويخفي وراء معسول الكلام أغراضها البشعة ولا يسميها بمسمياتها، فالمسميات الحقيقية هي شارة وعي، ولا يسود الوعي الزائف إلا في ظل غياب الوعي الحقيقي وغيبوبة العقل. وما الانتشار الواسع الجديد للأيديولوجيات الدينية من الصهيونية وحتى التأسلم السياسي مرورا بالمسيحيين الجدد في أمريكا إلا تجليا من تجليات غيبوبة العقل الجديدة تحت عباءة موت الأيديولوجيا ونهاية التاريخ.

أما الإبداع، والذي يبدو في السؤال وكأنه نقيض الأيديولوجيا، فإنه في حقيقة الأمر رديفها. لأن كل أيديولوجيا تنطوي على إبداع ما لصياغات وتصورات جديدة للعالم، أليست الطلسمة على حقائق العولمة البشعة ـ والتي مكنت رأس المال الغربي من نزح ثروات شعوب العالم الثالث بمعدلات أعلى كثيرا من تلك التي كانت تتم بها نفس العملية إبان أكثر فترات الاستعمار القديم بشاعة ـ هي نوع عبقري من الإبداع؟! وإن كان إبداعا مقلوبا. كما أن كل إبداع ينطلق من تصوره الخاص والمضمر للعالم، أي من أيديولوجية ما. صحيح أن الإبداع مصطلح يطلق عادة على الإنشاء الأدبي والفني، ويتسم بالتجسيد بينما تقوم الأيديولوجيا على التجريد، فإن تجسيده دائما ما يخفي في طواياه مجرداته الفكرية التي تشكل الهيكل العظمي الذي لا تقوم للتجسيد قائمة بدونه. وقد لا يستطيع كل من يرى إنسانا أن يعرف شكل هيكله العظمي، لأنه ينشغل أساسا بملامحه المجسدة لحما ودما، وينشغل بحركاته وسكناته عن حقيقة هيكله، ولكن عالم الفسيولوجيا يعرف أن هذه الملامح التي تتجسد أمامنا ما كان لها أن تقوم وتتبلور دون الهيكل العظمي الذي تنهض عله. لذلك فإن الناقد بالنسبة للعمل الإبداعي كعالم الفسيولوجيا بالنسبة للجسد الإنساني، ما أن يتعرف على عمل إبداعي حتى يستطيع استشفاف البنية المجردة المضمرة في كل تجسداتها والتي تتجلى وراء كل تفاصيلها. أي ما يسمى في مصطلح النقد الحديث بأيديولوجيا النص. وكلما كانت تلك البنية المجردة أصيلة وعميقة وشاملة كلما بدا العمل الإبداعي متماسكا ومتكاملا وقادرا على إرهاف قدرة المتلقي على فهم العالم والاستمتاع به معا.

إذن ليس ثمة فاصل في رأيي بين الأيديولوجيا والإبداع، ولا توجد كتابة أو ممارسة ثقافية وخاصة في عالمنا العربي في هذا الزمن الردئ لا تنطوي على موقف أيديولوجي من العالم ومن مؤسساته الثقافية والسياسية على وجه الخصوص. فليس موقف الكاتب الذي يسخر قلمه لتبرير وضع ما أو لإضفاء نوع من المصداقية على حاكم لا شرعية له ولا مصداقية لممارساته، كموقف الكاتب المستقل عن المؤسسة الذي يكشف عن تناقضاتها وعن عريها من المشروعية. فالأول يصدر عن موقف كلب الحراسة المكلف بحراسة النظام و الأيديولوجيا السائدة، ونشر الوعي الزائف ومد مظلات الغيبوبة العقلية على كل شيء كي يسود الظلام، بينما يجعل الثاني حراسة الكلمة ورفع راية قيمها العقلية والنقدية النبيلة همه الأساسي فيكشف ما تنطوي عليه أيديولوجيا الأول من وعي زائف وتناقضات مشينة. الأول شخص عار من الإبداع أما الثاني فهو الذي يعزز قيمة الإبداع، لأن كل إبداع حقيقي هو ابن وعي نقدي للعالم.

 

نادرة العويتي / قاصة ليبية

لا نستطيع أن نبني حاجزاً يحول دون تسرب أفكارنا الضمنية إلى نصوصنا الأدبية لحظة الكتابة لسبب يتعلق بتاريخ تربيتنا هذه الأيديولوجية الراسخة في أعماقنا والتي لمناها سراً وجهراً لن نتمكن الهروب من سيطرتها سواء في حالة الوعي أو في حالة الحلم.

جميع الأفكار التي تقودنا وتسيطر علينا نحن لم ننتقيها تبعاً لاختياراتنا بل رضعناها وورثناها ولمسناها ونحن في المحاضن وفهمنا أنها لاصقة بنا كجلودنا..لذا ليس غريباً أن نكون أسرى لها لكن هدا الأسر لا يعفينا من المسؤولية أمام نصوصنا ككتاب فالمبدع الحقيقي هو الذي يصنع نصه في فضاء خال من تأثيرات أية أفكار مسبقة وإلا تحول إنتاجه إلى ما  يشبه أقوال المدرسين والوعاظ والمرشدين.

وهناك فرق كبير بين أن أدافع عن فكرتي التي أحترمها وبين أن أجعلها مادة لقصتي.

 

سهيلة بورزق  /  كاتبة جزائرية

ما هي الايدولوجيا أولا، هل هي منظومة فكرية متطبعة في الكتابات  وبالتالي ترمي إلى إبراز مفاهيم معينة مسيطرة على النفس ؟ نعم هي كذلك بتداخلها المدرك وغير المدرك على الصعيد الذاتي .وشخصيا لم أهتم في حياتي بالسيطرة على منظومة أفكاري الذاتية والفكرية، لأن الاستغلال السياسي الذي عشته والنمطية العقائدية التي تربيت عليها،شاركتا في خوصصة طبيعة حاجتي الثقافية لتبني فكر محدد يشارك في تصويب الحس الإبداعي لدي .ثم أن الحس الفردي لا يمكنه التناقض مع سلطة المجتمع، إلا إذا أعلن الكاتب تمرده الفعلي والكلّي على أنظمة معينة في مجتمعه، وبالتالي يتبع منهج الخصوصية كقيمة معيارية في تجسيد دور المثقف الواعي الحر .

أؤمن أن لكلّ كاتب مصدره الخصوصي الموضوعي الذي  يتّبعه لتسويق معارفه وإشهار قناعاته حتى وان كانت غير مسموحة وغير مستهلكة بين الناس.مشكلتنا أنّنا لا زلنا نؤمن بأنّنا شعوب ذات ثقافة إقطاعية، مستوحاة من ديانات مختلفة ومتعددة ومن سياسات قاهرة لتحديث الإنتاج، فكرا كان أو ثقافة أو سياسة.

أن الدافع لدي لتقبل إيديولوجية معينة هي محاولة الخروج بها من قومية المفاهيم الهامشية ، كأن تؤمن بأمريكا كإمبراطورية عظمى وتغفل عن دراسة استراتيجياتها وعنصر تمكّنها من تحديث ديمومة عولمتها الثقافية، لذلك لا يمكن الفصل بين مرآة الإبداع كسلطة أدبية، وبين الايدولوجيا كمخزون إنتاجي تشكّله الصراعات بين مجموعة من الأفراد لحماية بؤرة فكرية قد تصيب وقد تخطىء.الكتابة بعنصرها الذاتي تختزن مجموعة من القيم التي تطمح إلى تنمية خيال وطموح القارئ، وغير ذلك لا أفهم من الايدولوجيا البعيدة عن الأدب سوى أنّها محاولة سياسية لترديد الذات في إطار تفكيك نظم وطنية.وبصراحة السؤال عن إمكانية الفصل بين الإبداعي والايديولوجي في الكتابة والممارسة الثقافية، بحاجة إلى دراسة معمّقة يدخل فيها التاريخ، لأنه حتمية النظم الحياتية التي تأتي على البشر بتأويلات ثقافية وقومية، لا تسمح بالفصل بين العالمية والخصوصية على حد سواء.

ورغم أنّ حرية التعبير انتشرت في بعض الدول العربية، إلا أنّ البعض من الكتّاب العرب اضطروا إلى الهجرة كي يتمكّنوا من تحرير ايديولجيتهم من القمع، وعليه أعادوا تقييم المكتسبات الحضارية في بلدانهم كفرا بها  بتقصيهم إعادة إنتاجها على غرار الحضارات العالمية .ولا يوجد كاتب واحد استطاع التخلص من منظومته الفكرية على مرّ العصور، لأن الكتابة مقاومة فردية لمواجهة عنصر التخلف بأساليب تصحيحية للمسار الفكري البشري، وأضع خطا أحمرا تحت كلمة الاكتساب المعرفي لمختلف وجهات النظر التي تنتهج سلطة السؤال والبحث، لا التي تلغي حرية الفرد وتمنعه من تبني مختلف المواقف، ذلك لأن الثقافات لم تعد معزولة كالسابق، لا سيما وأنّ القنوات المرئية والمسموعة وعالم النت فتحوا للعالم بابا واسعا للاختلاط  بفرص التفاعل مع خارج ثقافتهم.

 

زيد الشهيد /  كاتب وناقد عراقي

في الكتابة تبدو مهمة الإفضاء نوعاً من الرسالة وإبداء للهوية وعرضاً للايدولوجيا ؛ ويغدو الإبداع مآل من الجهد المثابر والحرص الدفين والسعي الذي لا يريد التوقف .

في الكتابة تعلو الايدولوجيا الإنسانية على التوجه الضيق للفكر، ويتوسع البوح الإنساني المنفتح على منافع القلة، ضيقة النظرة، محدودة الجهد . وحين تنقلب المعادلة تستحيل الكتابة مدعاة للعنصرية وخنقاً للانفتاح البشري . وعندها تشتعل الحرائق في كل مكان وتبدأ الحروب ويتعاظم الاستحواذ، فتتقهقر البشرية نحو تخوم الهمجية ويتحمل الكاتب وزر الدمار، وتحل عليه لعنة توجهه الضيق ومجاهرته المفرداتية في إعلاء شأن خالقي الدمار . الكتابة رسالة، والإبداع خلق .. والاثنان يشتركان في بلورة التحرك البشري وصياغة مساره القادم . والاثنان يحتاجان إلى أجواء ثقافية صحية تنعدم فيها الحزبية الضيقة والثقافة الشوفينية .

الأيدلوجية وسط مناخ إنساني تفجر الطاقات لدى المبدع وتدفعه إلى خلق إبداعي مميز  في الوقت الذي تسبب الأيدلوجية المحصورة في نطاق حزبي فكري - يحدد الطبقة على حساب المجموع البشري - تنامي الحقد ورغبة الاستحواذ والاستعباد وتقدّم أقلية على أكثرية . من هنا يحق القول أن الحزبية خيانة على الإنسان العادي فكيف بها على الكاتب، المفكر، الخلاق؟

الممارسة الثقافية في عصر الثورة المعلوماتية  تغدو مهمة إنسانية كبيرة لا يجب غض الطرف عنها أو إهمالها، فالعالم اليوم في تخلخل، والشعوب التي وجدت نفسها متأخرة عن الركب المتسارع للحضارة لابدّ لها من ركوب قطار الثقافة والسعي بمثابرة لا تعرف الكلل لخلق هوية ثقافية تطور توجهنا الثقافي الماضي والحالي وتجعل من المستقبل محطة ثقافية لا بدَّ من الوصول إليها وإدراكها . إذ الانشداد إلى الماضي بكل الجوارح والعيش الهامشي في الحاضر والهرب والخشية من المستقبل القادم سيطيح بهيبة الأمة ويجعل منها يوماً ما ذكرى . وعندها سيقولون بعد كذا من الأعوام أنه كانت هناك امة انكفأت تمجد ماضيها ناسيةً الحاضر وباصقة على المستقبل فاستحقت جراء ذلك الاندثار والتفتت على أرض الموات .

 

ماري رشو / كاتبة وروائية سورية

هنالك من يقول إلى حد الفصل، فالإيديولوجي نقيض الإبداعي، ولكل منهما طريقه الخاص به، ومتى ارتبطا فقد يواجه الإبداع علامة استفهام.

 

الهام محفوظ  / تشكيلية سورية  (مغتربة)

في رأي الإيديولوجي يعمل للتطور و تأمين الحياة الأفضل لكل الإنسانية ربما الإبداعي يسعى أيضا للتطور و الأفضلية لكن ربما يكون لحالته الشخصية و ليست للعامة و في نفس الوقت كلاهما يسعيان إلى التطور.

 

أحمد الجنايني /  فنان تشكيلي مصري

لا أشغل بالي مطلقا بالأيديولوجي في العمل الفني، أنا أمارس الفعل التشكيلي أو الإبداعي باعتباره فعلا حتميا للتوحد مع ذاتي في لحظة بعينها وباعتباره فعلا حتميا للاستمرار في الحياة، الأيديولوجي يفسد الإبداع تماما كما يفسده التنظير من قبل المبدع قبل الانتهاء من إبداعه أو أثناءه، الإبداع نوع من المغامرة أو المقامرة لا تعتمد على الإطلاق على القوانين الذهنية أو التفسيرات المنطقية، المبدع يسير حتما أثناء إبداعه على حبل مشدود بين منطقتي الوعي واللاوعي دونما حسابات مسبقة

 

منى ظاهر /  شاعرة وكاتبة فلسطينيّة

الأيديولوجيا عمومًا هي نظريّات شكّلها ويشكّلها العقل في نسق نسيج الوعي الإجتماعيّ السّياسيّ للمجتمعات المختلفة برؤاها النّقديّة لهذا العالم والوجود ومواقفها منه. وهي تتذوّت فينا وتخرج في اللاواعي منّا عبر ما نكتب/ نرسم/ نخلق. لأنّ الإبداع الحقيقيّ عمومًا لا يأتمر لأيّ تابو مهما كان وهو متأتّ من المنطقة السّاحرة بين الوعي واللاوعي.. هو كائن بحدّ ذاته متحرّك ويتحرّك.. لكنّ صلصاله يحمل مكنونات عدّة كما هي كينونتنا كبشر.

الإبداع بمختلف صوره وأشكاله هو المتنفّس الآخر للحرّيّة غير القابلة للمساومة، هو المتأتّي من حقيقيّة الرّوح.. من الحفر العميق في جوّانيّتنا/ دواخلنا الإنسانيّة بكلّ ما فيها من تناقضات وعتمات وأضواء وتشكّلات لبنيويّة هذا المبدع وهذه المبدعة غير المنقادة إلاّ للتّحليق في الأسفل العميق دون القصديّة المبتذلة لاقتناص نظريّة جاهزة.

كينونة المبدع مهمّ أن تكون فردانيّة لأنّها مقاوِمة ومتحدّية، بمعنى أنّ كلّ مبدع له خاصيّته المنفردة من مجموع أفكار ومعتقدات وشخصيّات منغمسة فيه وعادات وجنون وأحلام وطموحات ومزاجات وانكسارات ووعي جماليّ  ذاتيّ و... وكلّها تنعكس في نصّه المنسكب من عجينته غير المنفصلة أيضًا عن عجينة واقعه الوجوديّ الكونيّ ورؤيته المتمرّدة عن السّائد والجاري والمهيمن.

والكتابة عندي هي تحليق الرّغبة.. هي مرحلة اللذّة في الهذيان، هي الكلامُ الجديدُ، الوطنُ الغرامُ.

 

وفاء عبد الرزاق  / شاعرة وكاتبة عراقية  (مغتربة)

أنا ضد أدلجة الإبداع، صحيح أن الإبداع ابن المرحلة وصعب الفصل بين الواقع والكاتب فهما يتعايشان على ارض ما، لكن المبدع عليه أن يبحث عن  الإنسان وما يصب عليه الواقع من إفرازاته الجيدة أو السيئة . الكاتب ابن العامل والفلاح والتلميذ والمعلم والمرأة العاملة والطفل وربة البيت وابن الأصل ألا وهي الأرض . أنا شخصيا كل ما ذكرت هم حزبي وانتمائي الأيدلوجي .عليّ أن اكتب بهم ومنهم لأرسم الواقع الذي تفرضه علينا الأيدلوجية السياسية ومن ينبع انتماؤه من قلوب الناس يبقى حياً لأن السياسات والأحزاب تتغيّر والأيدلوجيات تتوالى بتوالي حكامها والباقي هو الشعب والأرض.هذه الأيدلوجية التي لا تتغير أبداً.

 

* شاعر وكاتب ليبي 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1531 الخميس 30/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم