أقلام حرة

الحقيقة في بغداد .. مشاهدات من مقعد الطائرة حتى عتبة بيتي / وائل المرعب

على كل حال حين أرتطمت العجلات بالمدرج، نشأت رغبة لديّ آنيّة لكنّها صموتة أن أصرخ وسط الجميع .. الحمد لله على السلامة سنرى بغداد من جديد ..

فاجأتني إبتسامة الضابط المؤدّب المشرف على توزيعنا على شبابيك ختم الدخول، إذ نادراً ما كنتُ أرى هكذا وجه سموح يستقبل العائدين، ولكي أكون منصفاً لم أكن سعيداً تماماً بهذا الترحاب من قبل هذا الضابط وأنا أراه بعين واحدة .. هل من المعقول عسكري برتبة نقيب يكون كريم العين؟.. أية كلية عسكرية وافقت لجنتها الطبيّة على قبوله كطالب وهو لا يرى الاّ بعين واحدة؟!!

المهم أستلمت حقائبي بسلام وحشرتها في صندوق السيارة الخلفي وأنا و(لابتوبي) جلسنا بجانب السائق وأنطلقنا نحو قلب بغداد . بدأت تلوح من بعيد نقاط التفتيش والمظاهر المسلحة والأردية المرقّطة والأستفسارات ورؤية جواز السفر .. قلت لنفسي لا يهم لقد تعودتُ على رؤيتهم مذ كان عمري أحّد عشر عاماً أي بعد ثورة تموز 1958 وحتى اليوم، ثم أقنعت نفسي بأنهم يؤدّون واجبهم حماية لأرواح الناس، وفي نفس الوقت بدأت تلوح على جانبي الطريق خرائب وأطلال .. ترائى لي وكأني مشترك في فلم تأريخي .. وكأن عصوراً وأزمنة حمقى قد مرّت قبلي على نفس الطريق وتركت كل هذا الخراب .. وكأنّ جحافل المغول وحشود التتار وبيارقهم ولجبهم وشواهقهم عبثت بوجه بغداد الجميل .. وحين رأى السائق ملامح حزني وحيرتي، قال لي هذا ما تركه الأرهاب لنا .. إبتلعت كلماته على مضض .. وحين وصلنا الحارثية (الحي الذي كان يعتبر من أجمل أحياء العاصمة) هالني ما رأيت .. بيوت محترقة ومهدّمة وأعمدة كهرباء ملتوية كأصابع العجين ومتعانقة وبقايا لهياكل سيارات تهمُّ رافعة كبيرة بحملها .. قال لي .. هذا وقع أمس لكنّ الضحايا كانت قليلة والحمد لله .. ثم وصلنا ساحة النسور وإذا بالنصب الذي أبدع فيه الراحل (ميران السعدي) قد طُلي باللون الذهبي وأختفى لون البرونز المعتّق الجميل .. قلتُ لنفسي لا بأس سنعيد له يوماً ما لونه الحقيقي .. لكنّ السائق حينما أحسّ بإهتمامي هذا، قال لي .. إذن ماذا تقول إذا علمت بأن نصب اللقاء لعلاء بشير قد هُدم ومسح من وجه الأرض؟!! بصراحة آلمني الخبر كثيرا لأعجابي الشديد بهذا النصب العملاق رغم أعتراضي على مواد الخام والأسمنت الذي شاركت في بنائه .

وحين إقتربنا من وسط المدينة ودخلنا دائرة زحمة المرور، إستوقفني أمران، الأول هو أن السيارات القديمة قد اختفت من شوارع بغداد وإستبدلت بسيارات جديدة ذات موديلات حديثة جداً تكاد تغطي عموم الشوارع .. والثاني شاهدتُ وعلمتُ ان هناك عدد كبير من المجسّرات التي تربط منطقة بأخرى وجسراً بآخر تنشأ حاليا ويجري العمل بها ليلا ونهارا ’ ورأيتُ للمرة الأولى رافعات عملاقة ومطارق شاهقة لدكّ الأرض ممّا يؤكّد أن مرحلة البناء قد بدأت فعلاً، ممّا عادل حالة الآسى التي إعتصرت قلبي قبل دقائق .

إختار السائق طريق الكرادة داخل بحجة كونه غير مزدحم يوم الجمعة .. وكان طريقا عامراً بالحياة وتتوزّع على جانبيه محلات كبيرة مكتضّة بالبضائع .. وعندما لاح من بعيد نصب كهرمانة الخالد احد أهم معالم بغداد بعد نصب الحرية، كدتُ من فرط فرحتي أن أخرج كاميرتي وأصوّره وكأنّني آراه للمرّة الأولى بينما كان كل يوم في طريقي قبل الرحيل من بغداد .. وحين إقتربنا منه صعقتُ بما رأيتُ ويا ليت سائقي إختار طريقاً آخر .. اولاً طُليت كل الجرار باللون الأخضر، وثانياً وضعوا نصباَ كبيرا أمامه هو عبارة عن سفينة خشبية تعلوها قباب ومنائر ذهبية ساطعة وصواري وأشرعة أيضاً بلون الذهب، وقد كُتب على كل شراع إسم أحّد الأئمة المعصومين !! ومع بالغ تقديري وتقديسي لهؤلاء الصالحين، الاّ أن المشهد برمّته كان كارثياً .. ترى من إتخذ هذا القرار؟ .. هل أمانة العاصمة؟ هل المجلس المحلي؟ هل امين بغداد؟ هل مجلس الوزراء؟ .. من يتعمّد تشويه صورة بغداد ويحط من قيمة حواضرها؟ ثم من يجرأ على رفع هذه السفينة بعد اليوم؟ أسئلة إبتلعتها كالسكاكين حتى شعرتُ بالغثيان !! كنتُ أرغب لحظتها أن أدلق ما بجوفي من سخط على وجوههم النكراء المتخلّفة .

ثم وصلت على مشارف زيوّنة .. زيوّنة الحي البرجوازي كما كان يسمّيه البعض، أصبح حيّاً يسكنه الغرباء ممن يرفعون رايات ملوّنة على سطوحهم ويخطّون (ما شاء الله) بخط عريض على أبواب بيوتهم، كما لم ينجُ شارع من شوارعها الجميلة من التخريب، وقبل أن ندخل الى شارعنا توقفت السيارة بسبب عطل طاريء، وبعد محاولات عدة فاشلة من قبل السائق لأصلاح العطل، إضطررت للنزول والمباشرة بالدفع، ولم نتحرّك سوى خطوات حتى توقّفت سيارتان قربنا ونزل منها مجموعة من الشباب الحلوين وطلبوا مني بأدب بالغ أن أقف الى جانب، وقاموا بمهمة الدفع حتى أعادوا للمحرك دورته، وعادوا دون ان ينتظروا كلمة شكر واحدة، وصلنا الى باب بيتي ورأيت بالصدفة جارتي الجميلة وهي تحملُ سلّة المهملات الى الحافلة المخصصّة لنقل الأزبال، وحين إستدارت نحوي ضحكت عيناها وأرتسمت على شفتيها إبتسامة كانت رؤيتها ضمن رغباتي بزيارة بغداد .. وقد جعل موقف هؤلاء الشباب الأخلاقي الذي يؤكّد بأن الكثير من العراقيين لا زالوا أمناء على النخوة والجيرة، وكذلك إبتسامة جارتي التي أحالت شارعنا الى حقلٍ من شقائق النعمان، من خرائب بغداد أجمل الخرائب .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1539 الجمعة 08/10/2010)

 

في المثقف اليوم