أقلام حرة

ماذا لو صح الصحيح / حسن الشرع

مقولات سخر منها الدكتور علي الوردي في ابحاثه وكتاباته..مقولات بعضها يرتبط بالموروث الشعبي العراقي ..من قبيل من جد وجد و اكعد بالشمس لمن يجيك الفي (انتظر تحت الشمس الى ان ياتيك الظل) و(في النهاية لا يصح الا الصحيح) و(من حفر حفرة لاخيه وقع فيها) وغيرها الكثير.وفي هذه السطور لا اريد ان اتطرق الى هذه المقولات باعتبارها ادبا وتراثا اجتماعيا او سلوكيا بقدر ما اريد ان احيط بالجوانب الفكرية بقدر ما تمكنني معرفتي المتواضعة للامر، فهذه الامثلة وسواها ترتبط جميعا مفهوميا بعلاقة زمنية متباينة ولكنها قوية، اي ان الزمن هو العنصر المهم في التركيز الدلالي لها، ان مفهوم استغلال الزمن والاستفادة القصوى منه باعتباره ثروة ظرفية كما هو الشان عند الشعوب والجماعات المتحضرة هو الامر الغائب في كثير من تراثنا الحضاري فضلا عن حاضرنا الراهن، ولا بد هنا من الاشارة الى ان مقولة (الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك) تشير الى اهمية من نوع ما للزمن من قبيل الصراع والغلبة ولا تؤدى المعنى التربوي والفكري الذي تتضمنه عبارة (الزمن هو المال time is money).طالما ترددت مفردة الزمن او الوقت مرادفة للقهر والانسحاق والقدرية فهذا المغني يردد (احنا ما همنا الوقت ..تاتي (همنا) اما بمعنى (لا نكترث) او بمعنى اتعبنا و قهرنا وذلك يردد (كذاب دولبني الوقت) ...وغيرهما يفضل الانتظار وآخر يسلم امره فلا يعمل شيئا...وبالعودة الى موضوع البحث في النهاية لا يصح الا الصحيح يحدد تعبير (في النهاية) الاطار الزمني للبحث، حاملا الدلالة الضمية لمفهوم الانتظار .ان مبدأ الانتظار هو من اهم المقومات العقدية عند اغلب عامة الناس وخاصتهم وذلك لا رتباطة بالمسالة المهدوية، فالامام المنتظر هو الذي سيشيع العدل على يديه في نهاية المطاف في الارض كلها بعد ان ملئت جورا و ظلما واذن لو صح الصحيح فهذا يلزم اننا في نهاية المطاف وان الامام المهدي هو من يتولى الامر واننا في الردح الاخير قبل ان تحل القيامة ولو بيوم واحد سيطول ليشهد الظهور وانهاء فترة الانتظار المزمن والتي بالضرورة وبموجب العقيدة المهدوية لا بد انها (اي الفترة) مليئة بالظلم والطغيان والجور..الخ.

ان هذا الامر يقتضي اننا ازاء احتمال شبه مؤكد باننا سنعيش الظلم بكل تفصيلاته وتعقيداته وشدته وهذا الامر هو الذي دفع بالبعض الى القول بالافساد الكبير والعمدي ليقترب التعجيل بالظهور وفي المقابل راح البعض يروجون الى افكار اخرى كالانتظار السلبي والانتظار الايجابي ريثما يصح الصحيح.ان هذا الطرح قد يتضمن بالضرورة الخصوصية العراقية تجاه الموضوع كون ان السند العقائدي له هو احدى الركائز الاساسية في المتبنيات الفكرية والدينية وحتى الاجتماعية والسلوكية لغالبية العراقيين على الرغم من انهم لا يختلفون عن غيرهم كشعب فيما يراه البعض من نوازع الخير والعلم والشهامة والكرم ونقائضها من الصفات والقيم السلوكية المادية والاعتبارية وهنا لا بد من التاكيد على الضوابط والمعايير الحاكمة والتي غالبا ما تختل عندهم كمجموعة بشرية او اثنية او دينية او حتى قومية وجغرافية، فلا زالت الضوابط عندهم سائبة وغير حاكمة.في احدى الحافلات الصغيرة سال احدهم عن عنوان طبيب ذكر اسمه فاجابه احد الاشخاص بقوله ان عيادته في شارع المغرب وادعى اخر انها في ساحة النصر واختلف الاثنان فقام اخر وحل الاشكال بالتراضي اي انه قدم حلا وسطا محاصصياىعندما قال موجها كلامه الى احد الشخصين لعله كان في شارع المغرب قبل ان ينتقل الى ساحة النصر ثم التفت الى الشخص الاخر وقال ولعل عيادته كانت في ساحة النصر ثم انتقلت بعدها الى شارع المغرب، في لحظة ما (قد تكون نهاية المطاف او اية نهاية ظرفية اخرى او اية نهاية صغرى) قد تكون القضية ونقيضها صحيحين لم يبد السائل اي انزعاج كونه ابن تلك البيئة الهلامية الرجراجة رغم انه لم يحصل على مرامه من طرح السؤال.اعرف ان هذه القصص وامثالها لا تؤسس الى بناء مفهومي او الى استنتاج صارم او حتى مقبول لكنها في الوقت ذاته لا تخلو من دلالة ما تفيد في فهم الصورة الاجمالية للمفهوم السلوكي والفكري.لقد عبر الدكتور علي الزكي عن حيرته امام التعامل مع هكذا مقولات ومنها مقولة (في النهاية لا يصح الا الصحيح) تحديدا، على الاقل من الناحية التربوية، فكيف يمكن له ان يفهم ولده بمفهوم لم يقنعه هو اي الاب وماذا سيحدث ان لم يصح الصح بعد حين او بعد بعد حين كما حصل له ولي ولاغلبنا هل يقول له انتظر ام ان المبدا خاطيء بالاساس ام انه يمسك بالعصا من وسطها اي يقول له لا يصح الا الصحيح ولكن ليس في النهاية التامة او المطلقة .تعدد النهايات هو احد تعقيدات الموضوع، ربما يقتضي الطرح ان يشار الى الطبيعة الدورية لتحقق الامر الحق (الصحيح)على فرض ان الحق والصحيح امر واحد او امران مرتباطان بالجوهر اي انهما كالصفة وموصوفها..فكرت فيما يمكن ان يحصل عندما تنصح شخصا بان الصح لا يمكن ان يصح قبل النهاية المنتظرة والسائبة ثم حصل نقيض ما انصح به اي ان الصح تحقق ظرفيا وآنيا وهذا الامر يمكن ويجوز ان يحصل لسييء الحظ بكثرة، يريديون الحق فلا يبلغونه وعندما يقفلون راجعين عنه يجدون الخطا والباطل في متناول ايديهم ..هي اشكالية اخلاقية قبل ان تكون فكرية وتربوية. عندما ينظر لامر كهذا من نواحي شتى فلا بد ان تكون لها قبل نهاية المطاف مدلولات سياسية، صحيح ان السياسة لاتتضمن مفاهيم الصح والخطا فكثير هم من عذر الرئيس السادات لزيارته الى القدس في عام 1977 ولو بعد ما يزيد على ربع قرن، ولكن الصحيح ايضا استخدام قواعد البيانات والمعايير المحكمة في اتخاذ القرار قبل النظر الى الاطار الزمني لاي قضية او موضوع فالزمن هو احد اهم عناصر القرار السياسي بالمفهوم الستراتيجي وليس الايديولوجي، ان السياسي العراقي هو جزء من الكيان الاجتماعي العراقي ذو التوصيف الهلامي الذي تطرقنا له، فربما كانت ازمة تشكيل الحكومة العراقية ليست مرهونة بمصالح الافراد والجماعات وربما يعد هذا الفهم اكبر انصاف لسياسيين لم تكسبهم وظائفهم السابقة ان كان للبعض منهم وظائف او لم يعيشوا الحالة السياسية او لم تسعفهم ثقافتهم الخاصة والعامة ولا خبراتهم المحدودة ...اقول لم ينفعهم كل ذلك في وعي وفهم طبيعة واهمية وجودهم على راس الهرم السياسي العراقي...في كل مرة يقول لنا احدهم ان العملية جارية على قدم وساق ولا بد من الانتظار ويدعو الجمهور للصبر والصلاة والتعاون وعدم الانجرار خلف المؤامرات والشائعات التي تنطلق من اطراف خارج العملية السياسية فالكثير منهم يدرك ان الانتظار عند العامة هو امر لا سوء فيه ولا عيب يعتريه بل ربما اعتقد البعض منهم انه امر مندوب يبعد الناس عن العجل والاستعجال ولا ينبغي لهم الملل والاسترجال ..الانتظار سنة لابد من ان نحافظ عليها ...ذلك ما يؤمنون به ولا يصرحون به ..ما يعملون به ويدعون له ففي النهاية لا يصح الا الصحيح ...ذلك مبناهم فهل هم ممن ينتظر ان لا يشمل بما شمل به غيره ؟..لو صح الصحيح لكانت هنالك حكومة عراقية تحترم شعبها ويحترمها ولتمتع الشعب العراقي بموارده الوفيرة التي يسيل لها لعاب الغرباء ولتغير تسلسل البلاد من الدرك الاسفل في نزاهة جهازها التنفيذي والتشريعي والقضائي والخدمي الى راس قائمة الشرف والعفة والشهامة والشفافية ولجرب العراقيون رفاهية قبل ان يجربها الاخرون وليس عندما تسقط من الاستعمال الكوني كنبيذ ومنبوذ بطل شانه وخاب سعيه، لو صح الصحيح لتوسلنا فيمن نريد ان يتولانا، هذه ليست احلام فمعظم حكومات شعوب الارض لا تسرق من شعوبها ولا تنهب خيرات بلدانها ولا يتصارع سياسيوها على امتيازات سيضعونها لانفسهم واهليهم وذويهم ومن لف لفهم، معظم حكومات شعوب الارض تتفانى في خدمة من ائتمنهم ..كل ذلك لم يحصل في نهاية المطاف او بعد الظهور او بعد طول انتظار، بل حصل ذلك ويحصل ونحن ننتظر الطاقم الجديد ممن يبحث عن ضالته في الوقت الذي انهكنا طول الامل وبعد المسافة قبل ان يصح الصحيح ولو عند منتصف الطريق ولكن بالتاكيد ليس في نهاية المطاف

 

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1552 الخميس 21/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم