أقلام حرة

رِفْقاً بالنواب!

ولكنَّه ما أن يستصعب تضييقه على مستوى "المحتوى" و"المضمون"، أي في الجذور والأصول من هذا الفرق، حتى يندفع ويُفْرِط في محاكاة وتقليد الأسهل والأيسر، والذي في متناوله، وهو "الشكل" و"المظهر"، محاوِلاً إيهام نفسه، على استعصاء اقتناعه بجدوى هذه المحاولة، أنَّ التماثل في الشكل يلغي الفرق في المضمون.

 

في عالمنا العربي، ليس لدينا ما لديهم من صحافة ومجالس نيابية وبرلمانات؛ وليس لدينا، بالتالي، شيئاً يُعْتَدُّ به من محتوى العلاقة بين الإعلام والبرلمان، فنأخذ بالخيار المتاح، وهو محاكاة وتقليد تلك العلاقة الحيوية والضرورية والمفيدة في أوجهها وجوانبها الشكلية، وتتبادل صحافتنا، بالتالي، مع برلماناتنا وبرلمانيينا الشجار والخصومة وما يشبه الحرب الباردة؛ أمَّا المجتمع، الذي نضج سياسياً بما يكفي لتحلِّيه بفضيلة اليأس، فيفضِّل أن ينأى بأسماعه وأبصاره عن كل هذا الذي فيه يختلفون و"يقتتلون"، وكأنَّه يريد أن يقول للسلطة الرابعة ولتلك التي ينبغي لها، بحسب فرضية دستورية لم تحظَ بعد بتأييد الواقع، أن تكون ممثِّلاً لذاك الذي يوصف بأنه "مَصْدَر السلطات جميعاً"، إلام الخلف بينكما إلام، وهذه الضجَّة الكبرى علام.

 

صحافتنا تُجْرِم في حق الشعب، وتستهزئ بذكائه، وتُفْسِد وعيه، إنْ هي سعت في تصوير أعمال المجلس النيابي، وكلام النواب في اجتماعهم البرلماني، مع ما يتبادلون من خصومة، على أنَّها أمور وأشياء تستحق وتستأهل أن تُنْقَل بالصوت والصورة إلى "المشاهدين الكرام"، وكأنَّها تَفْهَم "صناعة الرأي العام" على أنَّها بَثٌّ لوهم أنَّ المتربِّعين على العروش النيابية يمثِّلون شعبهم (بدعوى أنَّهم أتوا إلى ما هم فيه من نعيم برلماني من طريق الانتخاب) ويحقُّ، بالتالي، لشعبهم عليهم أن يحيطوه علما، عبر الصحافة ووسائل الإعلام، بأخبارهم، وجليل أعمالهم، مع أوجه قصورهم وتقصيرهم، علماً أنَّ خير واهم خبر يمكن أن نسمع هو أن تقرِّر الصحافة حَجْب المجلس النيابي والنواب عن أسماع وأبصار المواطنين لانتفاء أهميته وأهميتهم؛ فمُدَّعو صفة تمثيل الشعب لم يتكلَّموا حتى الآن، وعلى كثرة كلامهم، حتى نسمعهم!

 

القناعة كنز لا يفنى؛ ولكنها ليست بالكنز إذا ما كان معناها أن نَقْنَع بما لدينا من نواب، ومن مجلسٍ يجمعهم على كل ما فيه خير لهم، وضرر للأمة، فانتفاء وجود شيءٍ ما قد يكون خيراً من وجوده؛ ولا ريب في أنَّ هذا يَصُح أكثر ما يَصُح على مجالسنا النيابية، التي كلَّما سعت في إظهار وتأكيد وجودها، وأهميته وضرورته، عَظُم وقوي لدينا الشعور بأنَّنا لم نَعْرِف البرلمان والحياة البرلمانية بعد.

 

وإيَّاكم أن تظنوا أنَّنا ننزع عن مجالسنا النيابية ونوابنا هالة القداسة لِنُحيط بها الشعب، فإنَّ قسماً كبيراً، إنْ لم يكن القسم الأكبر، من أبنائه الذين يحق لهم الاقتراع، هو الذي انتخب، وبصرف النظر عن الدوافع والحوافز والوسائل والأساليب، ممثليه البرلمانيين.

 

وهؤلاء "الناخبون الأحرار" هم أنفسهم الذين يمكن أن يقولوا في "استطلاع للرأي" يجرى، ولو بعد ساعات من انتهاء الانتخابات البرلمانية وظهور النتائج، إنَّ المجلس النيابي لا يحظى بتأييدهم، وإنَّ النواب المنتخَبين ليسوا من جنسهم، مصالح وأهداف وغايات وطرائق عيش وتفكير، وكأنَّ "صفقة الولاء" التي عقدوها مع "المرشَّحين" تنتهي بانتهاء التصويت!

 

أمَّا لو سُئِل المُسْتَطْلَع رأيه بما يحيي في نفسه، ولو لدقائق معدودات، الشعور بالولاء، لَمَا تورَّع عن أن يجمع في إجابته الهجاء والمديح، فهو يمكن أن يهجو المجلس النيابي والنواب، ممتدحاً، في الوقت نفسه، "نائبه". وأنتَ يكفي أن تَحْسِب الممتَدَحين من النواب، أرقاماً ونِسَباً، حتى تتوقَّع أن يعاد انتخاب كل، أو معظم، النواب، إذا ما أجْريت الانتخابات الآن، أي بعد "استطلاع الرأي" مباشرةً، وكأنَّ "الناخبين" يقولون في "استطلاع الرأي": لا للمجلس النيابي، نعم للنواب!

 

إنَّنا لسنا ضدَّ النواب، بل ضدَّ "النيابية" المعمول بها، والتي على مثالها يُخْلَق، أو يُعاد خَلْق، النائب، فالذي يريد نائباً، له أُذن تسمع، وعين تبصر، وله أظافر وأنياب، يُمثِّل حقَّاً الناخبين، ويتمثَّلون به حقَّاً، يملك من السلطة ما يُظْهِر ويؤكِّد أنَّ الشعب هو مَصْدر كل سلطة، فإنَّ عليه أن يؤسِّس لحياة برلمانية (وانتخابية وسياسية) تملك هي من جودة الخواص ما يكفل الإتيان بنائب، وبمجلس نيابي، بالخواص الجيِّدة ذاتها؛ أمَّا أن تظل حياتنا البرلمانية مفعمة بهذا الموات الديمقراطي والسياسي، فهو ما يفسِّر انتشار وشيوع ورسوخ تلك "الثقافة البرلمانية" التي تُتَرْجَم بما يجعل "النيابية" مرادفاً للفساد والانتهازية و"الميكيافلية الشخصية"، ولمبدأ "عشْ ودعْ الحكومة تَعيش"، فـ "تجربتنا البرلمانية" علَّمت النائب أنَّ الزهد عن القيام بما انْتُخِب من أجله هو أقصر وأسْلَم الطرق إلى ما فيه نفعه الشخصي والعائلي!

 

وإنِّي لمتأكِّد تماماً أنَّ النائب عندنا هو أكثر المواطنين تحرُّراً من وهم أنَّ "السياسة" لها في البرلمان ما، ومن، يمثِّلها، وإنَّ البرلمان مبنيٌ من حجارة سياسية؛ وهو، بالتالي، أكثرهم خبرةً وذكاءً في "أكل الكتف".

 

وإنَّه لشيءٌ يشبه ما ينجبه زواج المأساة بالمهزلة أن تُصارِع الصحافة عندنا من أجل حقِّها في الحصول على الشيء من فاقده، فالنواب متَّهمون بأنَّهم يسعون في حجب ما يملكون من معلومات قيمة وثمينة عن الصحافة، متطاولين على حقِّها في الحصول على المعلومات، ولو مِمَّن يملكون منها ما يؤكِّد أنَّهم آخر من يَعْلَم!

 

إنَّ من الحكمة بمكان أن تَطْلُب العلم ولو في الصين؛ ولكن أين هي الحكمة في أن تطلب "المعلومات"، التي يمكن أن تَزِن شيئاً إذا ما قيست بميزان مصالح وهموم واهتمامات المواطنين، ولو من المجلس النيابي؟!

 

المعلومات المفيدة حقَّاً للمواطنين، والتي يملكها النواب وحدهم، هي المعلومات التي نرى من خلالها كيف يجيدون اللعبة البرلمانية، ليس بمعناها السياسي، وإنما بمعناها الشخصي؛ فهل تتوقَّعون أن يحيطوكم علماً بأسرارها وفنونها؟!

 

السؤال في أمرٍ يشبه، أو يعدل، "البديهية"، هو، بلا ريب، ضرب من "السؤال الفاسد"، فسائله كمن يطلب دليلاً على وجود النهار. أليس بسؤال فاسد أن تسأل "هل من فرق بين الوجود والعدم؟"؟!

والطامة الكبرى أن يجيبكَ أحدهم قائلاً: "لا فرق"!

ولكنَّ هذا الجواب يمتلئ بالحق والحقيقة إذا ما أتى جواباً عن سؤال "هل من فرق بين وجود البرلمانات العربية وعدم وجودها؟".

 

إنَّني أدعو الصحافة إلى أن ترأف بالنواب ومجالسهم، فلا تحمِّلهم ما لا طاقة لهم به، وأن تكفَّ عمَّا يذلهم، فإنْ هي أصرَّت على إذلالهم فإنِّي أنصحها أن تذلهم بالصفح عنهم!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1093  الاثنين 29/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم