أقلام حرة

ثقوب في الذاكرة..أم غياب وعي بالتاريخ.. قراءة لرسائل "الشيخ بيد الله" إلى الداخل والخارج..

بأشياء يتخيلها في الواقع، في حين أنها مجرد وساوس ناتجة عن ضعف الذاكرة، أو أمراضها المزمنة..

هذه الحالة المرضية نجدها متفشية في كل العصور التي يشيع فيها الفراغ السياسي، ويغيب فيها الفكر الرصين، المستنير مما يترتب عنه غياب وعي ثقافي، وتفشي ظاهرة الدجل الفكري والسياسي..

ومن نافلة القول أنه ليس بمقدور أي أحد مهما أوتي من سلطان أن يقفز على حقائق التاريخ وضرورات الجغرافيا...

وبالتالي فإن الأمم التي تفقد وعيها بالتاريخ، أو تصبح عديمة الإدراك والإحساس بحتميات المجال الجغرافي (المناخي والإقليمي، والجيوسياسي والإستراتيجي) فسوف تختل موازينها وتذهب ريحها، وينكمش دورها، بل تصبح تدور في فلك غيرها من الأمم الفاعلة والمؤثرة في حركة التاريخ، إن غياب الوعي التاريخي هو الذي يدفع البعض إلى ان يختلس التاريخ في حاضره، ومستقبله، وليس البلاء هنا، بلاء منفعة تفوت او مضرة تحدث، ولكنه بلاء الزيغ في البصر والبصيرة..

ومن المؤكد أن البناء الذهني والأخلاقي غالبا ما يشكل أرضية البناء الإقتصادي والإجتماعي والسياسي..

كما أن التخلف الحضاري والثقافي، ينتج حالة من السلوكات المضطربة، والعلاقات الغير المتوازنة مع المحيط ومع العصر..

لقد تواردت علي هذه الخواطر بعد قراءة متأنية للحوار المطول الذي أجراه مدير النشر لأسبوعية الوطن عبد الرحيم أريري (عدد 343) مع كل من الشيخ بيد الله الأمين العام لحزب "بام" وكذلك مع الأستاذ الباحث مصطفى ناعمي..

وقد لفت نظري غياب الرؤية السياسية الواضحة المعالم لقضية الصحراء المغربية في حديث المكاشفة للدكتور بيد الله حول القضية خاصة إذا علمنا أن الدكتور بيد الله يوجد ضمن النخبة التي إعتمدت عليها الدولة في تدبير ملف "الأقاليم الجنوبية" منذ ما يزيد على ثلاثة عقود..، ثم أنه اليوم يحتل موقعا مركزيا في المشهد الحزبي الوطني، ويعتبر حسب اريري من ابرز الرموز الصحراوية، وقد اراد من خلال حواره مع جريدة (الوطن) أن يبعث برسائل إلى الداخل والخارج..

والسؤال الذي يفرض نفسه على الباحث: هل رسائل الدكتور بيد الله التي ضمنها حواره الطويل مع جريدة |(الوطن) يمكن إعتبارها خطاطة لتصور سياسي شامل عن الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي في الصحراء. وعن طبيعة بؤرة النزاع الممتد هناك منذ ثلاثة عقود.

أم أن الأمر لا يعدو أن يكون كلاما عابرا في لحظة إنتخابية عابرة.

إذا ما توقفنا عند تحليل مضمون خطاب "الشيخ بيد الله" لجريدة الوطن، سوف نجد أن مضمون الخطاب لا يخرج عن سرد لحكايات مكررة، وتضخيم لوقائع وظواهر بعد إخراجها من سياقها التاريخي من اجل التبرير الغير الموضوعي بإسقاط أحداث الماضي على الحاضرة أو المستقبل وبمعزل عن شروطها التاريخية والسياسية، و بعيدا عن أسبابها ودوافعها الجيواستراتيجية..

فماذا إذن ورد في رسائل "بيد الله" إلى الداخل والخارج..

- يبدأ "الدكتور" حديثه الموجه إلى (الداخل والخارج) بسرد لشريط الذكريات (على طريقة الحكواتي) عن تأسيس (البوليزاريو)، ملمحا إلى أن هذه النشأة أو الولادة كانت نتيجة ردود أفعال لتعامل الدولة المركزية مع سكان الصحراء..

وبالتالي فقد نشأت "الجبهة الجنينية لتحرير الصحراء" كرد فعل لكمشة صغيرة من الشباب إزاء قضية الصحراء التي كما يقول لم تكن تشكل أولوية في أجندة السلطات العليا المغربية في ذلك الوقت..

ويوجه الاتهام إلى العمال "الولاة" بالمسؤولية الكبرى فيما وقع ( حتى بعد استرجاع الأقاليم الجنوبية طبقا لإتفاقية مدريد الشهيرة)، وبأنهم كانوا يتصرفون، كما تصرف المستعمر..

ويقول أيضا بأن كل شيء تغير عندما التقى (الولي مصطفى السيد) بالرئيس ألقذافي لأن الرئيس الليبي كان يريد إسقاط النظام المغربي ونتيجة الدعم الليبي تأسست (البوليزاريو ) في مدينة الزويرات الموريتانية في (20 ماي 1972)، ولكن لم يقل لنا هل الدعم الليبي كان من أجل إسقاط النظام المغربي أم تحرير الصحراء..

تشكلت العناصر المؤسسة (للبوليزاريو) إلى جانب المنحدرين من الصحراء (قبليا) من موريتانيين كان بعضهم ينتمي إلى حركة الكادحين اليسارية...، وأضاف أن بعضهم عاد إلى المغرب رغم أنهم لا ينتمون إلى القبائل الصحراوية (...).

ويقول أيضا بان ليبيا احتضنت مغاربة الشمال الذين كانوا يتحركون ضمن مخطط سياسي لزعزعة النظام أما فتية الصحراء فكانوا يحلمون بالعمل المسلح، الأمر الذي توافق مع الأهداف الليبية في ذلك الوقت.

هذا وجه من ردود الأفعال حسب رواية بيد الله أما الوجوه الأخرى أو بالأحرى العوامل التي أدت إلى اشتعال فتيل أزمة الصحراء، ودائما حسب رواية "الدكتور" فتعود إلى سنوات (1958-1959-1960-1963...) أي الحقبة الموالية لاستقلال المغرب سنة (1956). بعضها يعود كما يقول إلى تجاوزات "جيش التحرير" في الجنوب ضد السكان المنحدرين من الصحراء وأعيانها، وأيضا إلى المعاملات القاسية التي عومل بها الملحقون بالجيش المغربي من أبناء الصحراء...

ومن العوامل أيضا كما يقول إعطاء الحكومة المغربية الأولوية لقضية موريتانيا على حساب الصحراء مما ترتب عنه ظهور شعور بالدونية؟ دون أن يشير إلى أن المغرب اعترف بموريتانيا سنة 1969 أي قبل ظهور البوليساريو على المسرح. ويقول بأن أموالا ضخمة رصدت للأقاليم الجنوبية خلال الثلاثين سنة الماضية، كان من الممكن أن تغير اديم الأرض، إلا أنها استعملت في غير محلها...

وفي الختام يوجه "الدكتور" رسالة إلى الأجيال الحالية مشددا على أن مشكل الصحراء، هو مشكل مغربي...، وأن أبناء الصحراء دافعوا عن تحرير الصحراء، وإنضمامها إلى المملكة، وان المغرب قد تغير، وقد فتحت فضاءات الحرية للجميع، وقد حان الوقت لطي صفحة الماضي...

هذه خلاصة مركزة لخطاب "الدكتور بيد الله" ورسائله إلى الداخل والخارج، يبدو من مضامين هذا الكلام، انه يختزل المسالة في بعض الوقائع السياسية والاجتماعية في حين أن الصراع في منطقة الشمال الإفريقي يندرج ضمن مخططات جيوسياسية رسمت بدقة متناهية في المرحلة الاستعمارية من أجل خدمة الأهداف الاستعمارية والغربية في مرحلة ما بعد الاستعمار..

 فالمخطط إذن يشكل احد أبعاد إستراتيجية الهيمنة العالمية.

ولكي نوضح معالم الصورة لابد من التذكير ببعض الحقائق في هذه الباب...

- أولا وقعت القوى الاستعمارية الأوروبية اتفاقية برلين سنة 1885 لتقسيم القارة الإفريقية،وقبل التوقيع على الاتفاقية احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830 وتونس سنة 1883 ومنطقة التراوزة في أقصى الجنوب الموريتاني.

- ثانيا في 27 يوليوز 1900 وُقّعت اتفاقية بين فرنسا واسبانيا على اقتسام الصحراء، فسلمت فرنسا بموجبه الساقية الحمراء ووادي الذهب لإسبانيا، وفي 20 يوليوز 1901، اعترفت فرنسا لإيطاليا بحق احتلال طرابلس الغرب. وفي 20 مارس سنة 1912 تم التوقيع على معاهدة الحماية التي بموجبها بسطت فرنسا سيطرتها على المغرب.

كان الباعث القوي لهذا التوسع الاستعماري الامبريالي اقتصادي وسياسي واجتماعي. وكان التوسع الامبريالي وسيلة للحصول على أسواق جديدة والسيطرة على موارد جديدة تمكن الدول الاستعمارية الأوروبية من دعم اقتصادها وتطوير صناعتها وتوسيع دائرة مجالها الحيوي.

 لقد كان الاعتقاد السائد لدى الأوروبيين عموما والفرنسيين بالخصوص أن منطقة الشمال الإفريقي تعرقل سائر أهداف الغرب الاستعمارية في الشرق الوسط، ومن هذا المنطلق كان هدف المخطط الاستعماري تمزيق الوحدة واللحمة الحضارية والثقافية والسياسية للنظام الإقليمي المغاربي حتى يبقى لقرون وأجيال مشلول الإرادة غير قادر على أن يلعب أي دور حضاري.

لقد قام خبراء الاستراتيجيات الاستعمارية بإعادة ترتيب الأوضاع من خلال تشكيل الأوضاع (في المنطقة المغاربية وغيرها من المناطق الواقعة جنوب الصحراء...) سياسيا واستراتيجيا، وذلك برسم خريطة سياسية تتلاءم مع أهداف ومخططات الإستراتيجية الاستعمارية البعيدة المدى..

 والملاحظ أن الشروخ الجيوسياسية التي أحدثتها الحقبة الاستعمارية سوف يكون لها بالغ الأثر على مجمل الأنظمة الإقليمية في العالم الثالث وخاصة القارة السمراء.

 الأمر الذي أدى إلى تعطيل عملية الاندماج والتكامل بين الدول الإقليمية...

وبالرغم انه أصبح من المسلم به لدى النخب السياسية والإجتماعية الفاعلة في النظام الإقليمي المغاربي، بأنه لن يحدث أي تقدم حقيقي يؤهل النظام إلى أن يصبح قوة مؤثرة في محيطه الدولي، وكذلك في دائرته الحضارية والعربية والإسلامية، إلا ببناء وقيام نظام إقليمي مغاربي مندمج.

 ولابد أيضا من الإشارة في هذا المضمار إلى ضرورة القيام بإصلاحات عميقة على بنية الدول الإقليمية وكذلك على بنية النخب التي تدير شؤون الدولة والمجتمع، من أجل تجاوز أزمة الدول الإقليمية وكذلك أزمة النخب السياسية والاجتماعية.

إذن ضمن هذا المنظور يمكن مقاربة، وقراءة الرهانات الجيوسياسية، والأبعاد الإستراتيجية المحيطة بنزاع الصحراء المغربية.

ومن هذا المنطلق لابد لمن يريد إستشراف أفاق الصراع الدائر في المنطقة أن يدرك عوامل التحول والتبدل التي تتحكم فيه أو تذكيه.

تأسيسا على أن مفاتيح كل صراع تكمن في الوقوف على أسسه ومقاصده،وليس في مظاهره وأشكاله...

ومن منظور علم الاستراتيجيا فإن الصراعات تنشأ بسبب اختلال موازين القوى، وتغير العلاقات، وبالتالي فإن حسم أي صراع يتطلب من الأطراف الفاعلة فيه أن تعيد صياغة رؤيتها وأهدافها لكي تتلاءم مع الحقائق والمصالح الجديدة في المقام الأول، نتيجة للتحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم بعد انهيار القطبية الثنائية..

ولا شك أن النزاع حول الصحراء لا يمكن فصله عن مجمل التطورات والتشكيلات الجيوسياسية العالمية..

 إن المنطقة المغاربية توجد بالفعل في مفترق طرق مما يطرح على صناع القرار، والنخب الفاعلة عدة أسئلة معقدة وخطيرة، لعل أهمها يرتكز في أنه لن يكون لهذه المنطقة أي دور في عصر التكتلات الكبرى ما لم تخرج من حالة التشرذم والتفرقة، والانقسام وما لم يتم اختيار سبيل التوحيد والاندماج الذي يساهم فيه الجميع ويستفيد من ثماره الجميع.  ومن ثم لا مندوحة عن التحلي برؤية ثاقبة لاستكشاف الأشياء والأفكار،  والحقائق كمدخل لفهم التحولات الإستراتيجية الكبرى التي طرأت على العالم.

وتعلمنا دروس الماضي وعبره، كيف نتجنب تكرار المحاولات الفاشلة والوقوع في أخطاء عاصفة..

 إن من يحاول القفز على حقائق التاريخ وضرورات الجغرافيا، سوف يجد نفسه معلقا في فراغ أو تائها في بيداء (يحسب السراب ماء) مضطربا حائرا بدون بوصلة تهديه إلى بر الأمان...

لقد أصاب الأستاذ علال الفاسي رحمه الله حين كتب في "صحراء المغرب" سنة 1958 بأن الاستقلال الوطني وحده لا يكفي إذا لم يصحبه استقلال في الفكر والإدراك.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1094  الثلاثاء 30/06/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم