أقلام حرة

الزلزال السياسي للا نتخابات الرئاسية الموريتانية

البلاد على مدى ثلاثة عقود، وكانت كلها تستهدف إزاحة رئيس الدولة من سدة الحكم واستبداله برأس جديد، ثم بعد ذلك تتشكل حول هرم السلطة بطانات، ومراكز وقوى من مختلف المشارب تدور كلها في فلك السلطة الفعلية ونواتها الصلبة "المؤسسة العسكرية".

إذن كانت الطبقة السياسية الموريتانية قد دخلت بعد انقلاب 2008 الذي أزاح الرئيس المنتخب سنة 2007، في مناكفات ومنازعات وصراع مفتوح على السلطة بين مختلف الأطياف، والقوى النافذة داخل البلد..

وقد تطور الأمر بصورة أدت إلى عجز القوى الداخلية عن الوصول إلى سياسة تخرج البلاد من الأزمة السياسية المتفاقمة بسبب طبقة سياسية شرهة، ومتعطشة للاستحواذ على السلطة، والسلطة فقط ولا شيء غير السلطة!

ونتيجة لذلك كان لابد من تدخل خارجي، ساهمت فيه قوى إقليمية ودولية. من أجل احتواء الأزمة، وإجبار فرقاء الصراع إلى القبول بحل توافقي يعيد للسلطة العليا في البلد الشرعية..

من هنا جاءت اتفاقية "دكار" التي أشرف عليها رئيس الدولة السينغالي، بمباركة من المجتمع الدولي..

وبموجب هذه الاتفاقية أجريت انتخابات 18 يوليو التي كرست الفوز الساحق (52.58%) لقائد الانقلاب (2005 و 2008).

 والذي لا شك فيه، أن هذا الفوز الساحق للجنرال في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الموريتانية (2009) حيث أجمع مراقبوها من الداخل أو الخارج بأنها كانت سليمة من الناحية الإجرائية والفنية..

إن هذا الفوز بورقة الشرعية الدستورية، بعد شهور من المناكفات والنزاعات السياسية الحادة، يعد بلا ريب زلزالا سياسيا، سوف يرج المشهد السياسي الموريتاني رجا كبيرا، يجدر بالمحلل السياسي  والمتابع للشأن السياسي الموريتاني والملاحظ لتطوراته ومستجداته، أن يقف عنده مليا، لعله ينفذ إلى بعض أسراره وخفاياه أو يقف عند بعض مظاهره الدالة على ما يمور في بواطنه..

نعم، لقد أحست الطبقة السياسية الموريتانية مع امبلاج خيوط فجر يوم الأحد، ومع توالي ظهور النتائج على الشاشات الإلكترونية، الدالة على الفوز المرتقب والكاسح للمرشح ولد عبد العزيز على منافسيه، الأمر الذي أدى إلى صدمة شديدة هزت أركان الطبقة السياسية وتجلت في الاضطراب الذي أصاب بعض المرشحين الكبار الذين خانهم الحس السياسي، فهرعوا إلى إصدار بيان في فجر ذلك اليوم، متضمنا رفضهم للنتائج المتوقعة من الاقتراع على المنصب الرئاسي، مستبقين الإعلان الرسمي عن النتائج كما تقتضي به الأعراف والتقاليد السياسية في البلدان التي يتم فيها الاحتكام إلى بعض صور وأشكال الديمقراطية..

ما حدث إذن يعتبر زلزالا سياسيا بكل المقاييس ولابد من تأمله واستخلاص دروسه وشواهده من أجل فهم دقيق لما حدث، أو لما قد يحدث في هذا البلد في المستقبل المنظور القريب أو المتوسط من أحداث، ومتغيرات سيكون لها بالغ الأثر على  مستقبل البلد..

لقد قامت الكتلة الناخبة للبسطاء من الناس بتصويت عقابي ضد الزعمات السياسية، ومن خلالها الطبقة السياسية التي تسمي نفسها بالديمقراطية..

في حين أنها لا تقل ديكتاتورية وجبروتا، واستكبارا عن العسكرتارية التي حكمت البلد لعقود من الزمن..

لقد مل الناس البسطاء الخطابات الرنانة والوعود الكاذبة للسادة الكبار الذين يعيشون العيش المرفه في قصور مشيدة، لا يحركهم سوى هم السلطة..

وذهب بهم حب السلطة إلى دعوة المناحين الدوليين إلى قطع مساعدتهم عن البلد للضغط على الحكام الجدد، إلا أن أثار ذلك كان بالغا على جمهور الناس البسطاء ..

لقد شعر هؤلاء البسطاء أن الزعامات السياسية التقليدية تسعى للركوب على جراحاتهم وعذاباتهم من أجل الوصول إلى السلطة..، وبالتالي كان لابد من انتهاز الفرصة المتاحة لإعطاء درس بليغ للطبقة السياسية الموريتانية التي تجمدت وتكلست، وفقدت حيويتها نتيجة لسيطرة  زعامات مسكونة بالدرجة الأولى بهم السلطة، بعيدة عن هم الوطن والمواطن.. ومن هذا المنطلق جاء التصويت العقابي العريض لصالح ولد عبد العزيز..

إلا أن هذا التصويت في نظري يجب ألا يعتبر شيكا على بياض، بل إنه يسائل الطبقة السياسية برمتها بدءا من الرئيس الجديد، والمؤسسة العسكرية النافذة ورجال المال والأعمال والزعمات السياسية والدينية والقبلية والمثقفين وهيئات المجتمع المدني.

 وقبل أن ا تطرق إلى إشكالية الإصلاح ورهاناته التي تتطلب من صناع القرار مواجهتها لإخراج البلد من أزمته السياسية وتخلفه الإقتصادي والاجتماعي والثقافي..

لابد أن أشير بأن الباحث في الشأن السياسي يجتهد في شرح وتفسير المتغيرات الجارية على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية، كما يبرز تأثير العوامل الداخلية والخارجية على المشهد السياسي والاجتماعي، سواء تعلق الأمر بالأنساق الظاهرة أو بالأنماط التي لازالت في طور التشكل. وليس همنا إصدار أحكام أو الدفاع عن موقف معين، بقدر ما ينصب اهتمامنا على مقاربة موضوعية لازمة الدولة والمجتمع..

وتأسيسا على أن السياسة فن الممكن، فلابد أن تراعي الوقائع و الموازين العينية، بيد أنها أيضا استشراف، وبناء، وحسن استكشاف، وإلا تحولت إلى نمط من الاستجابة الميكانيكية الآلية لمعطيات، وظروف ضاغطة..

إن الأزمة السياسية الموريتانية من هذا المنظور. تعود إلى الإختلالات التي أصابت بنية النظام السياسي والاجتماعي وأدت إلى الانحراف عن المقاصد الأساسية للنشاط السياسي وهو التدبير الرشيد لشؤون الدولة والمجتمع، من أجل تحقيق الصاالح العام لمجموع مكونات الدولة.

 إن النشاط السياسي بمعناه العام (le politique) يرمي إلى تحقيق الغايات والأهداف العامة للمجتمع، وذلك عن طريق تعبئة موارده، ثم اتخاذ القرارات الضرورية لبلوغ النتائج المتوخاة من أجل رعاية صالح المجتمع في خضم تضارب المصالح، وتنافر الآراء والمعتقدات أما الإختلالات التي تصيب الجسم الاجتماعي وتؤدي إلى انحراف مساره. وتعيق بالتالي تحقيق المجتمع لأهدافه الحيوية القصوى، التي تحفظ له انسجامه وقدرته على الخلق والإبداع، وتمكنه من البقاء والاستمرار..

إن هذه الإختلالات هي بالفعل نتيجة من نتائج سوء التدبير للشأن العام (la politique) ومن ثمة فإن سوء التدبير السياسي يؤدي إلى اختلال الموازين الاجتماعية، وإلى تعطيل مسيرة المجتمع نحو النمو والتطور.

وللخروج من هذه الحالة يجب استنفار مكونات المجتمع للمشاركة في إعادة بناء قدراته وتفعيل مؤسساته حتى يصبح قادرا على تحقيق أهدافه الوطنية، وصنع مستقبله بإرادته الحرة.

إن المشاركة السياسية للقوى السياسية الحقيقية، والفاعلة في المشهد السياسي، تعتبر شرطا ضروريا لأي تحول سياسي وكذلك للخروج من حالة التخلف السياسي والاقتصادي...

ومن ثمة فإن السؤال الذي يطرح نفسه على كل مراقب للشأن الموريتاني، يرتكز حول إشكالية الإصلاح السياسي ورها ناته. وللإجابة على هذا السؤال الجوهري نحتاج إلى تحليل للواقع السياسي وإلى التدقيق في الصورة الشاملة للأوضاع من أجل إدراك مستلزمات وعوامل وشروط المرحلة التي تستوجب إجراء إصلاحات عميقة على المؤسسات السياسية والبنيات الاجتماعية  كشرط ضروري ومقدمة للدخول في مسار للإصلاح السياسي الحقيقي..

لقد اعتقد البعض خلال المرحلة الانتقالية (2005/2007) بأن إعادة النظر في بعض القوانين أو إجراء تعديلات بسيطة على بعض البنود الدستورية المحدودة، سيؤدي إلى إصلاح الإختلالات، التي يعاني منها المجتمع، وسيغير النخب السياسية، وسيبدل السلوكات السياسية والأخلاقية؟

ولا شك بأن المسألة أعمق وأبعد من مجرد إجراءات شكلية، تجميلية..

إن الإصلاح السياسي الحقيقي هو الذي تتمخض فيه مؤسسات سياسية تعبر عن الإرادات الاجتماعية و تحقق مصلحة مشتركة.

كما أن شرعية النظام السياسي تقتضي أن يشترك المواطنون وقادتهم في رؤية المصلحة العامة للمجتمع.

إن الشعوب والمجتمعات والنخب التي تعجز عن الاضطلاع بالقيام بإصلاح سياسي لمؤسساتها وتطوير لبنياتها الاجتماعية سوف لن تستطيع مواكبة التحولات الكبرى التي يشهدها العالم.

وصدق الشاعر العربي حين قال:

لو في النار تنفخ لاستنارت              لكن أنت تنفخ في رماد

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1116  الاربعاء 22/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم