أقلام حرة

مقدمة في الذهان

إن الذي كان قد كان، وحاليا من خلال تجدد اهتمامنا بما انتهينا إليه في موضوع علاج الذهان، يمكن لنا أن نميز بسهولة بين المصابين بالشيزوفرانيا  المصابين بالبارانويا، فهؤلاء يتلقون تركيزا متزايدا، ونحن نتوخى نتائج أعمق. لماذا، من وجهة نظر معارضة، تهتم الأطروحة الفرويدية بالبارانويا – هل لأنها عقدة، وهي نواة للمقاومة (الممانعة) ؟.

ربما نحتاج لوقت طويل للرد على السؤال، ولكنه سيبقى تحت سطح مقاربتنا له.

طبعا، لم يكن فرويد يستوعب الشيزوفرانيا. وإن حركة تطوير المفهوم كانت تجري وهو على قيد الحياة. ولكن بينما كان يتفهم ويعجب وحتى يشجع أبحاث مدرسة زيوريخ، ويضع نظرية التحليل النفسي في شبكة من العلاقات التي تتشكل حول بلولير Bleuler  (1)، احتفظ بمسافة عنه. فقد كان مهتما أساسا بالبارانويا . ولكي نقدم لكم نقطة ارتكاز مباشرة يمكن العودة إليها، أذكركم أنه في نهاية تشخيصه لحالة شريبر Schreber  (2)، وهذا نص أساسي له علاقة بالذهان،  كان فرويد يتقصى العلاقة، كما يبدو، بين البارانويا من طرف، ومن طرف آخر ما كان يطلق عليه اسم بارافرينيا (3)، وهو ما يغطي بالضبط حقل المصابين بالشيزوفرانيا.

هذه نقطة مرجعية ضرورية لمصداقية كل الموضوعات التي سنعود إليها على التوالي – ولكن بالنسبة لفرويد ينقسم حقل الذهان إلى مجالين.

ماذا يغطي مصطلح الذهان في حقل علم النفس؟. الذهان لا يتساوى مع العته. إن الذهان، ولنضع نصب أعيننا: ليس هناك سبب ليكف أحد عن تقبل هذه الكلمة، هو إن شئت: مرادف لما نسميه دائما وباستمرار وعن وجه حق ما يدعى حتى الآن بالجنون. وهذا هو المجال الذي يقسمه فرويد إلى إثنين. إنه لم يتجشم العناء بخصوص لوحة سريرية كما فعل في موضوع الذهان، ولكنه كان شديد الوضوح، وكان بارعا في ذلك إلى درجة لا يمكن لنا أن نتجاهل فيها تألقه.

هنا، وكما يحدث أحيانا، لم يكن فرويد ابن مرحلته.هل كان متأخرا عنها؟ أم هل كان يسبق عصره . هنا مصدر الغموض.

من أول نظرة نقول إنه متأخر بما فيه الكفاية.

ليس بوسعي أن أشرح لكم تاريخ البارانويا ما دام أنه انطلق بداية في مطلع القرن التاسع عشر (4) وبرعاية طبيب نفسي من جيل كانت (5)، ولكن اسمحوا لي أن أقول إنه غطى بفحواه داخل علم النفس الألماني كل أشكال الجنون تقريبا – سبعون بالمئة من المرضى في المصحات النفسية كانوا يحملون اسم البارانويا. وكل حالة نسميها بالذهان أو الجنون كانت بارانويا.

 في فرنسا كانت كلمة بارانويا، عندما دخلت إلى اللائحة السريرية، وحصل ذلك في وقت متأخر جدا، في بحر خمسين عاما، تعرّف باسم مختلف جذريا. على الأقل حتى وقت عمدت فيه (أنا جاك لاكان) إلى تحريض هذه الأفكار، وهو ما حصل على نطاق محدود، وداخل دائرة ضيقة، دائرة صغيرة لها سلطة مرجعية، الأمر الذي يعني أن الكلام عن البارانويا شرع يسير بغير المعنى السابق، كان معنى المصاب بالبارانويا يشير إلى شخص مزعج، شخص لا يمكن تحمله، نمط سيء المزاج، ومتفاخر، ولا يمكن الوثوق به، ومتحسس، ويعزو لنفسه مزايا فوق العادة. هذه المواصفات هي التي وضعت الحدود لمعنى البارانويا. حينما يكون المصاب بالبارانويا يعاني من حالة مزمنة، سوف ينتهي الأمر بنا إلى شبهات فقط.

كان السؤال لا يركز على المفهوم ولكن على الصورة العيادية، وهي صورة عيادية دقيقة جدا.

هكذا تقريبا كانت الأمور تسير في فرنسا. ومن غير إساءة تفسير من جهتي، وبعد نشر كتاب السيد جينيل بيرينGe’nil Perrin (6) عن مؤسسة البارانويا، توسع نفوذ فكرة المنطق الشخصي لصورة الإنسان السوي والتي تقوم جوهريا على أساس ما يمكن للمرء (كما يؤكد الكتاب في تفاصيله واتجاهه) أن يقول: إنه انحراف في البنية الشخصية. ومثل جميع المنحرفين، إن المصاب بالبارانويا يتجاوز أحيانا الحدود، ويسقط في قبضة الجنون  المرعب . وهذه مبالغة غير مقيدة تدخل على المواصفات الشخصية غير المرغوب بها.

إن مثل تلك النظرة، يمكن أن تكون نفسية، أو أنها تضفي طابعا نفسيا، أو حتى أنها تكوين نفسي. وإن جميع المراجع الرسمية عن الأساس العضوي، على سبيل المثال العاطفة المتقلبة، لا تغير من الأمرشيئا – إنها بنية تكوينية نفسية حقا . هناك شيء يمكن تعريفه وتقييمه عند مستوى محدد، وإن تطوره يتبع تسلسلا مستقلا لا تمكن مقاطعته، بحيث أنه يكتفي بذاته في حقله. ولذلك، بعبارة أخرى، نرى لماذا هو سؤال نفسي، على الرغم من اعتراض المؤلف الصريح على وجهة النظر هذه.  في نظريتي حاولت الترويج لرأي آخر. منذ كنت طبيبا نفسيا مبتدئا قدمت لعلم النفس من خلال البحوث المخبرية والتدريس، وسأكون شجاعا لأقول من خلال ولعي الشديد ودوري المؤثر في الطب النفسي الفرنسي لتلك الفترة، اسم السيد دي كليرامبو de’ Cle’rambault (7)، والذي سأنوه هنا بشخصيته ومآثره وأفعاله.

و بالنسبة لأولئك ممن ليست لديهم غير فكرة تقريبية عن بحوثه – وهذا أمر مؤكد – من المفترض أن السيد دي كليرامبو هو المدافع العنيد عن المفهوم العضوي الأساسي. وذلك يأتي في أساسيات مقولاته النظرية. في أية حال، لا أعتقد أنه يقدم لنا الرؤية الدقيقة، لا من ناحية أثر شخصيته وتدريسه ولا من ناحية النطاق الذي تحتله اكتشافاته. كان لعمله، بغض النظر عن أهدافه النظرية، قيمة عيادية ملموسة، وهناك عدد لا يستهان به من التناذرات  (8)  العيادية التي تعرف عليها كليرامبو بأسلوب أصيل تماما، ومنذئذ أصبحت من تراث الخبرة النفسية. لقد قدم لنا مساهمة أصلية وثمينة، لم يتجاوزها أحد. وفي ذهني دراساته عن الذهان الذي تسببه المواد السامة. وبكلمة مختصرة، في مجال الذهان يبقى كليرامبو بطلا لا يشق له غبار.

و لقد تم الاهتمام بمفهوم الآلية العقلية في أعمال وبحوث كليرامبو من خلال جهده المبذول لتوضيح [ الإعاقة الكلامية = anideique ] (9) أساسا، فهي كما يشرحها، صفة ظاهراتية طمرت نفسها في سيرورة تطور الذهان. وهذ يعني: كل ما لا يتطابق مع قطار الأفكار، ولكن لسوء الحظ إن ذلك لا يساعد على تشكيل معنى يضيف لما يفعله الخطاب القياسي. وإن هذه النقطة المرجعية تتوضع، إذا، في سياق المعنى التالي:  أن تكون مفهوما. ولكن المرجع الأولي يخدم فقط الإيضاح عما يقدم لنا ذلك من مواعظ تبدو غير أصلية (وهذا بالضبط هو إقرار بها).

و قد يدفعنا ما سلف للتأكيد على بساطة الأمر إلى حد الإفراط ما دام حقا لا يوجد شيء نشترك في فهمه جميعا، وأخشى أن تكونوا أنتم  من بين هؤلاء، أو على الأقل حفنة منكم. إن التطور الأساسي في مجال الطب النفسي منذ دخلت إليه هذه الطريقة في التحقيق والتي تدعى باسم التحليل النفسي، يتألف، وهذا اعتقاد نجازف به، من: استعادة المعنى إلى سلسلته في الظاهرة. وهذا ليس خاطئا بحد ذاته.  لكن الخاطئ حقا أن نتخيل أن المعنى الذي يخضع للدراسة هو ما نحن نفهمه. وإن ما يفترض بنا الإلمام به مجددا، كما هو شائع في جميع العيادات الطبية، هو التعبير الطبي  Sensus Commune بمعنى: أن تفهم المرضى. ولكن هذه عبارة عن سراب لا شك فيه.

إن فكرة الاستيعاب لها معنى واضح جدا. إنها مصدر يأتي تحت اسم علاقات الاستيعاب والفهم، وكان ياسبرز قد نصبها كصراط أو ميزان لكل ما يسمى عموما باسم الأمراض النفسية. وهي تتضمن التفكير بأن بعض الأشياء واضحة تلقائيا وبحد ذاتها، وهذا على سبيل المثال، يعني: أن المرء يكون حزينا لأن رغبات قلبه ممنوعة، ذلك ما يضعه تحت وطأة الأحزان. ولكن الحزن عاطفة من لون آخر فعلا.

و أنا أود أن ألح على ذلك. حينما تصفع أحد الأولاد، حسنا ! من المفهوم أنه سيبكي. ولكن لن يزعم أحد إنه من الضروري عليه أن يبكي حقا. وأنا أذكر هنا ولدا كلما صفعته كان يسأل – هل تلك لمسة للتقرب أم أنها صفعة ؟. لو أننا أخبرناه إنها ضربة سوف يبكي، وهذا يعود إلى العادات، إلى قاعدة اللحظة وأثرها، ولو أنها لمسة لطيفة سوف يبتهج. غير أن هذا ليس نهاية المطاف. حينما يتلقى شخص ما صفعة تتوفر لديه عدة طرق للاستجابة غير البكاء. بمقدوره أن يرد بالمثل، أو ربما يدير خده الآخر. أو لعله يقول  اضربني، ولكن اسمع ما أقول !. هناك عدة أساليب متاحة، وهي التي نحن نتخطاها حينما نتبنى فكرة علاقات الاستيعاب والتفاهم كما ذكرها السيد ياسبرز.

قبل أن نقلب هذه الصفحة يمكن أن نعود إلى بحثه المسمى " المفهومات التي لها معنى "، وسوف يبرز لنا مباشرة عدم التجانس . وهذه هي قيمة الخطاب المستمر.

إن الفهم لا يمكن إنجازه إلا في شبكة علاقات مثالية، وما أن يحاول أحدنا الاقتراب منه، حتى يصبح، بمعنى مؤكد، بعيدا وغير ممكن الإمساك به . والأمثلة التي يتبناها ياسبرز على أنها شديدة الوضوح، وضمنها إحالاته المرجعية، والتي يشوش فيها على الفكرة ذاتها بسرعة  من غير أمل، هي مراجع مثالية. ولكن ما يثير الانتباه أنه في نصه الشخصي لا يمكن له على الرغم من كل الجهود الفائقة التي يضعها في خدمة هذا السراب المستمر، أن يتحاشى ضرب الأمثلة المفصلة التي تعاكسها الحقائق دائما.

على سبيل المثال بما أن الانتحار هو ميل نحو الانحدار  باتجاه الموت، يبدو من الممكن لكل واحد فينا أن يقول إذا ما تسنت له الفرصة أو الدافع – هذا سوف يتحقق بسهولة أكبر حينما تنحدر الطبيعة، ويتوافق ذلك مع فصل الخريف. ومع ذلك من المعروف لفترة طويلة أن عددا أكبر من الأشخاص يقدمون على الانتحار في الربيع. وهذا غير مبرر من أية جهة. مفاجأة أن فرص الانتحار أكبر في الربيع بالمقارنة مع الخريف يمكن أن نلوم عليها هذا السراب غير المنسجم والذي ندعوه باسم علاقات الفهم والاستيعاب، لو أن هناك أي موضوع يمكن أن نضعه نصب أعيننا بهذا الترتيب (النظام)!. وهذا يقودنا لأن نعتقد أن البنية التكوينية للنفس يجب تعريفها بإعادة استيعاب هذه الفكرة الشهيرة عن علاقاتنا مع موضوع الطب النفسي. وهو في الواقع أمر يصعب تقبله. لأنه بالحرف الواحد لا يمكن تقبله، ولكن مثل كل الأشياء التي لا يمكن الإمساك بها بسهولة، أو أنها تكون في قبضة المفاهيم الواقعية، يبقى افتراضا كامنا، افتراضا كامنا طوال جميع التبدلات التي لحقت بعقدة الطب النفسي خلال الثلاثين عاما الأخيرة.

حسنا. إذا كان هذا هو شأن البنية التكوينية للنفس، ولأن معظمكم الآن يستطيع أن يفهمها، بعد عامين من إلقاء المحاضرات عن الرمزي والمتخيل والوالقعي، حري بي أن أقول لكم ولمن لم يستوعب المسألة بعد، إن السر الكبير الكامن وراء التحليل النفسي هو  عدم توفر تكوينات نفسية . ولو أن التكوينات النفسية هي هكذا، نقول بدقة متناهية ليس هناك ما يمكن الحصول عليه بعد الآن في التحليل النفسي بالنظر لتاريخه ككل، وبالنظر لطموحاته الأخيرة ومرتكزاته الأساسية، وفي جميع الحقول التي أسهم بها، ثم في جميع الحقول التي كان قادرا على تأكيدها وبخصوص أي موضوع تطرق إليه.

هناك طريقة أخرى للتعبير عن الموضوع، لو ذهب المرء لمسافة أبعد، وبهذا الشأن نقول إن علم النفس المنطقي، لو رغبنا بفهمه بقدر الإمكان، هو علم السلوك، وهو السلوك الشامل للكائن البيولوجي المستقل حين يرتطم ببيئته الطبيعية. وهذا تعريف مبرر لعلم النفس. وهكذا نجد لدينا نظاما للعلاقات الواقعية، شيء يمكن تشييئه، حقل له حدود واضحة بما فيه الكفاية. ولكن كي نؤسس لشيء علمي، على المرء أن يذهب لما هو أبعد من ذلك. ولقد قال أحدهم عن علم النفس البشري ما كان فولتير يقوله بالعادة عن التاريخ الطبيعي، والذي هو ليس طبيعيا تماما، وذلك بصراحة يعني أنه ما من شيء يمكن له أن يكون أكثر لا – طبيعية ؟.

إن كل شيء في السلوك البشري يعود إلى نظام علم النفس وهو عرضة لمثل هذه الظواهر الحياتية (الروحية) العميقة، وهو باضطراد يمثل معضلات واضحة، بحيث أن المشاكل الناجمة عن التعرف على الحاجات يجب إدخالها في مضمار نظام: قطة تبحث على جرائها.

لو أن حدا نسي المشهد العريض، المنبع الأساسي للتحليل النفسي، عليه أن يعود إلى كل الأساطير التي تشكلت منذ قرون، وهذا هو الاتجاه اليومي الملحوظ والمستقر المنتشر بين المحللين النفسيين. من فترة طويلة كانت هناك حاجة لتعريفات واضحة  وهو ما يمكن تحريه منذ نهايات القرن الثامن عشر تقريبا. أسطورة وحدة الشخصية، أسطورة التركيب، الوظائف السامية والأخرى التافهة، الاضطراب والتشويش بخصوص الآلية، كل هذه الأنماط، وهي تقع في مؤسسات المجال الموضوعي، تكشف بانتظام عن كسور وشقوق واختراقات (أو عوز)، عن نفي للحقائق، وعدم التعرف على الخبرات والتجارب المباشرة.

و لتلافي الأخطاء لن أسقط في أسطورة الخبرات المباشرة التي تشكل ما يدعوه الناس باسم علم النفس الوجودي أو حتى التحليل النفسي الوجودي. إن الخبرات المباشرة ليست في وضع أفضل من بقية العلوم لتلقي القبض علينا أو تأسرنا. إنها ليست مقياسا للتطور الذي يجب أن نصل إليه في خاتمة المطاف. وفي تعاليم فرويد، والتي هي بهذا الخصوص على أتم الوفاق مع ما يجري في بقية النطاق الذي تحتله العلوم، مهما حاولنا استيعابها خارج أسطورتنا بشكل مختلف، تفرض مصادر لها دور نشيط هي أبعد من حدود الخبرات المباشرة، ولا يمكن الامساك بها بأي أسلوب ملموس. في التحليل النفسي، كما هو شأن الفيزياء، إن ما يلفت انتباهنا ليس صفة اللون كما نشعر به ونميزه عن طريق الخيرة المباشر. وإنما هناك شيء أبعد من ذلك، وهو الذي يخلق الظرف (اللحظة).

إن الخبرة الفرويدية ليست، بأي حال، سابقة على المفاهيم . إنها ليست خبرة نقية، ولكنها تتخذ مكانها في البنية عن طريق شيء صناعي، العلاقات التحليلية، بنفس الطريقة التي تتركب بها عن طريق الذات والتي تعود بها إلى الطبيب، وما يفعله الطبيب حيالها.  إنه انطلاقا من هذا الاتجاه الإبتدائي للعملية يصبح  كل شيء فعالا ومفهوما.

و عبر هذه اللمحات يجب أن تتعرف على ثلاثة أنظمة أنا دائما أقول عنها: إنها ضرورية جدا لفهم أي شيء على الإطلاق وله علاقة بالخبرة التحليلية – وهي تحديدا: الرمزي والمتخيل والواقعي.

أنتم تشاهدون الرمزي وهو يبرز الآن حينما أشوش، ومن جهتين متباينتين، على ما هو أبعد من الفهم والذي نضع فيه كل ما نفهه، والذي يلعب أيضا دورا مؤثرا يقاطع ويشتت العلاقات البشرية وبين البشرية بكل وضوح.

و أنتم تشاهدون أن المتخيل كما يدل عليه المقال الذي ذكرته عن سلوك الحيوانات، هو شكل يمسك أو يأسر، ويتألف من الخط الذي يسير عليه سلوك الحيوان بالاستجابة لأهدافه الطبيعية الفطرية.

إن بيرون  Pieron (10)، والذي لا تفوح منه رائحة المقدس، يسمي أحد كتبه " الإدراك: دليلك إلى الحياة ". وهذا عنوان ساحر، ولكن لا أعتقد أنه قابل للتطبيق على الإدراك كما يدعي، وإن محتويات الكتاب لا تؤكد على ذلك أبدا. والصحيح في مقاربته أن المتخيل هو حقا دليلنا إلى الحياة، ولكن في نطاق المجتمعات الحيوانية. إنه الخيال (الصورة) الذي يلعب دورا أساسيا في نطاقنا وعلى قدم المساواة مع غيره، ولكنه دور يحمله نظام الرمزي بالكامل على عاتقه، بمعنى أنه ممسوك في داخله، حيث يعيد صناعته ويعيد رسمه . إن الخيال دائما (وتقريبا) جزء من مكونات النظام، وهنا أنا أقول على سبيل التذكير  إنه معرّف من قبل الإنسان عن طريق مواصفات بنيته المنظمة.

و لكن ما الفرق بين ما يعود لنظام المتخيل أو الواقعي وما يعود لنظام الرمزي. إن لكل عصر قيمة نحن على وشك أن نكتشفها. شخص مصاب بالذهان أخبرنا كيف أن العالم الذي دخل إليه منذ بعض الوقت غريب عنه. كل شيء أصبح  إشارة. إنهم لا يتجسسون عليه فقط، ويراقبونه، ويحرسونه، وليس الناس يتحدثون إليه فقط، ويشيرون، وينظرون إليه ويغمزون له، ولكن كل ذلك معا – أنت تشاهد الجانب الغامض فورا، وهو يغزو حقل الواقعي، ويعزو للأشياء غير البشرية قيمة أرواحية.

دعنا نتفحص ذلك عن قرب قليلا. لو أنه واجه سيارة حمراء في الشارع، والسيارة ليست موضوعا طبيعيا، فهذ ليس من غير معنى. وسوف يقول إنها في تلك اللحظة بالذات كانت تتخطاه عمدا.

و لنتفحص تلك الأفكار الوهمية. للسيارة معنى، ولكن الذات غير قادرة على تحديده بالضبط. هل هو معنى إيجابي؟ هل تنطوي على خطر يتهددها ؟ لا شك أن لوجود السيارة هناك سببا. ومن هنا، أنت تحتك بمعظم الظواهر غير المتمايزة، وبوسعك أن تشكل منها ثلاثة مفاهيم متباينة كلية.

بمقدورنا أن نراقب هذا الموضوع من زاوية إدراك الانحراف. ولا تظنن أننا الآن بعيدون عن ذلك. منذ فترة غير بعيدة كان هذا هو المستوى الذي أثرنا به سؤالا يتعلق بحقيقة الخبرة الأولية للمجنون. ربما هو مصاب بعمى الألوان ويرى الأحمر وكأنه أخضر والعكس بالعكس. وربما هو غير قادر على تمييز الألوان.  مجددا، بمقدورنا أن نعتبر من يواجه سيار حمراء مثل أبي حناء (11)  بصدر أحمر، وهو يعاشر شريكته، وينفخ صدره الأحمر الذي منه استمد اسمه أساسا. لقد تبين لنا أن ثوبه يتطابق مع حراسة حدود موطنه، وأن شريكته وحدها تستطيع أن تستغل سلوكه العدائي تجاه الآخرين. إن الأحمر هنا له وظيفة خيالية وهي، تقع في نظام علاقات الفهم تماما. وبمقدورها أن تترجم إلى حقيقة  أن الذات سوف ترى الأحمر أحمر حينما تضمر صفة الحنق والعدائية كتعبير مباشر.

و أخيرا، بمقدورنا أن ننظر إلى السيارة الحمراء ضمن نظام الترميز، وتحديدا كما يفهم المرء اللون في لعبة الورق، فهو بعكس الأسود، وإنه جزء من لغة منظمة حقا.

و هكذا يمكن لكم التمييز بين هذه الإدخالات الثلاث، مثلما يمكن التمييز بين المستويات الثلاث التي نفهم بها ما نسميه بظاهرة فهم العناصر.

 

 هوامش المترجم:

1 – يوجين بلولير: 1857 – 1939 . طبيب نفسي سويسري.

2 – هو دانييل بول شريبر: من القضاة الرفيعين في ألمانيا.سقط صريع الذهان في فرة 1884 – 1885، ثم قام لاكان بتحليل مذكراته، وهي أساس هذه السلسلة من المحاضرات التي نتقتطف منها المقال الحالي.

3 – بارافرينيا: مصطح عام يشمل في نطاقه ظاهرتي البارانويا والشيزوفرانيا. انظر ص 58 من موسوعة علم النفس، إعداد أسعد رزوق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979 .

4 – عموما إن:  ر.  أ. فوجيل هو من أدخل المصطلح إلى حيز الاستعمال الحديث في عام 1764 . (التوضيح من لاكان).

5 – المقصود هو المفكر عمانوئيل كانت، مؤلف العقل العلمي والعقل الصافي.

6 – هو جورج جينيل بيرين.

7 – كليرامبو (1872 – 1934): طبيب نفسي فرنسي.

8 – التناذر: هو حزمة من الأعراض المتزامنة.

9 – هذا المصطلح يدل على انقطاع أو عدم تمكن من موتور النشاط الألسني والذهني.

10 – وهو هنري بيرون.

11 – أبو الحناء:طائر يقطن في أمريكا الشمالية، وله صدر بلون الصدأ الأحمر.

 

المصدر:

نص المحاضرة التي ألقاها لاكان عام  1955 ونشرت بعد وفاته بالفرنسية عام 1981 . والترجمة عن النص الرسمي الموازي والذي هو باللغة الإنكليزية، وتفاصيله كما يلي:

Introduction To Te Question Of Psychoses. In: The Psychoses. by: Jaques Lacan, edit. Jaques- Alain Miller , tran. Russell Grigg. Routledge, 1993 .

كلمات أساسية: الشيزوفرانيا والبارانويا. كليرامبو. سراب الفهم. الذهان. التحليل النفسي. الرمزي والمتخيل والواقعي.

ملخص البحث: يقدم جاك لاكان في هذا السيمنار الذي ألقاه على الحضور صورة شاملة عن نشوء مصطلح الذهان في فرنسا. مع علاقته بالعته أو الجنون. مع إشارة سريعة لمفهوم الجنون من الناحية الاجتماعية والمنطقية.

2009

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1131  الخميس 06/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم