أقلام حرة

يحيى السماوي .. كلنا حب العراق أذلنا / صالح الطائي

 بساتين وأنهار وخضرة زاهية، أو صحراء جدباء لا حياة فيها ولا ظل . ولذا تجد من يفارق مدينته منا يبقى أسير الغربة ورقيق الوجد لها والهيام بها حتى وإن سكن مدينة لا تبعد عنها إلا ساعة، فكيف إذا كانت المسافات دهورا، وفواصلها محيطات وبحورا؟

علاقة العراقي بمدينته وبيته من نوع الموروث الجيني الذي تتناقله خارطة الحمض النووي بين الآباء والأبناء لأنها مسيرة تناقلية تمتد عبر التاريخ الإنساني إلى كل الأجداد لتصل إلى نوع النبي في سفينته التائهة في الطوفان الأعظم، ولذا ورث نفوسنا عظمة الطوفان  وشربت عشقه أرواحنا عذبا مغدقا وتسامت به قاماتنا لتماهي نخلنا، وترفع رؤوسنا إلى حيث تمد النجوم أعناقها.

لقد عشت لوعة فراق الأرض والبيت مجبرا مهجرا ولكن دمعي كان عصيا ولم يطاوع روحي المعذبة، فتصنعت الكبر، وتجملت بالكبرياء ترفعا أن يقولوا ضعف، لكنني بعد سنتين من الغربة ضعفت فجأة، ليس لأني بعد ستين سوط عذاب أحمل آثارها على ظهري الهرم  لم أوطن نفسي على قبول الأمر الواقع، وإنما لأن حفيدتي "صفا" ذات الستة أعوام بدت ذات يوم حزينة، وتصرفت بغرابة، والقصة أننا في إحدى الجمع كنا مجتمعين على مائدة الغداء ورفضت صفا أن تشاركنا الأكل متعللة أنها متضايقة وحزينة، ولما سألتها عما يضايقها قالت: مشتاقة موت إلى غرفتي في بيتنا البغدادي وأريد الذهاب الآن لرؤيتها، ورغم أن الموقف هز أعماقي إلا أني صمدت أمامها وطوعت ستيني المتعبة لتدوس بكل كبريائها الزائفة على عواطفي وتمنعها من ترجمة حزني بكاء مرا، صحيح أني تركت المائدة وانزويت في مكتبي أدخن حتى الثمالة والقرف، إلا أن حاجزا فولاذيا بطول قامتي كان يمنع هطول أدمعي فيزيد عذابي ولوعتي، ومع مرور الأيام والشهور كنت أستجدي الدمعة عسى أن يطفيء بردها حر ناري، لكنها بكل عناد الكون كانت ترفض أن تحن علي لتنزل عن كاهلي جبلا أضناني دهرا، إلى أن أرسل لي أخي يحيى السماوي شرائح مصورة لبعض قصائده، وكانت أولاها بعنوان (أذلني حبي) يحكي في بدايتها قصة تهجره القسري فأثارت شجوني المكبوتة وتشنجت أعصابي وبدأت يداي ترتعشان كما ترتعش السعفة في العاصفة، كان ولدي "بسام" الذي جاء من بغداد مع عائلته لزيارتي يجلس بجانبي وينظر إلي بدهشة واستغراب وعيناه تتنقلان بيني وبين شاشة الحاسوب، ثم لما أظهرت الشريحة الثانية وجدت يحيى شامخا أمامي بكل كبرياء التاريخ، يحمل معولا جبارا ليهدم ذلك الطود الشامخ ويحطم ذلك السد الفولاذي ليحررني من ذل الخنوع للمكابرة!

(فتشت في كل نافيات حروب القهر

عن مدينتي

فتشت ما بين سبايا العصر عن حبيبتي

وعن فرات ساحر عذب

رأيت نخلة على قارعة الدرب

هززتها

فانهمر الدمع على هدبي

وعندما هززت جذع الأرض

يا ربي

تساقط العراق في قلبي)

ومع آخر كلمة تساقطت كل الحجب التي كانت تغرق نفسي في ظلمة سرمدية، وتهدمت تلك الكبرياء التي كنت أفتخر بها كذبا لأجهش ببكاء مر أخرج كل الدموع المحبوسة قسرا وحررها من سجنها الكئيب لتنطلق فرحة سعيدة، ومعها شعرت بسعادة غامرة وحزن غريب، فأنا وإن كنت قريبا من داري تلك التي فارقتها لا عن رضى، ولكني لا أختلف عن يحيى وعن كل العراقيين  الآخرين الذين أذلنا حب العراق وأضنانا، لا ذل الهوان والصغر، ولكن ذل كبرياء ورفعة وشموخ، ففي ذل محبة العراق تتطاول القامات وتشمخ الكبرياء، ولن يعرف العراقي معنى الكبرياء الحقيقية إلا إذا أحب العراق، فحب العراق هو الانعتاق.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1594 الخميس 02 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم