أقلام حرة

مات أبو أمير في بلاد الغربة / سلام جمعه المالكي

 أرملة في ميعة الشباب وطفل لم يكد يفقه معنى الموت، وهو الذي كنت حضرت عيد ميلاده التاسع قبل أيام قليلات كان يكاد والده المغفور له يطير بأجنحة الفرح والسرور وهو يتنقل بين ضيوفه وما درى أن خيوط اكفانه تحاك مع كل سكنة وطرفة عين. فكم حلم كان يجول في خاطره وكم أمل بمستقبل زاهر له ولأسرته الصغيرة كان يدغدغ جوانحه بعد العودة لوطنه مجللة زوجته بفخار الشهادة العليا بما يفتح لها وللاسرة آفاق مستقبل زاهر؟

من سخرية القدر وللمصادفة، التي قد لا تكون مصادفة، أن قرأت مقالة لاحدهم مضمخة بمرارة السخرية من أحاديث المغتربين وتباكيهم على سالف أيامهم في العراق داعيا اياهم للكف عن الاشتياق لعراق غارق في التخلف وسوء الخدمات والتقتيل (العهدة على ذلك الكاتب) والبقّ والحر، حاسدا اياهم على رغد العيش (حسب ظنه) والحماية والضمان الاجتماعي والصحي والكنتاكي والبيف بركر، ولم يبق الا أن يذكر انهار الخمر واللبن والحور العين والولدان المخلدين. كم جاهل أنت يا أخي وواهم أو قد تكون موهوما بسبب الجهل!! ليس الغرض الدخول في كمَ العوز وشظف العيش الذي يعيش فيه المغترب (والعراقي خاصة) في بلدان تعاني اصلا من ضائقة اقتصادية تحار معها في توفير مقومات العيش الضرورية لمواطنيها، من غير ذوي الخبرات او الامكانات والمؤهلات العالية، لكن انظر يا أخي في حالة كحالة زوجة المرحوم أبي أمير التي وجدت نفسها فجأة أمام كارثة فقدان الزوج والاب والقريب الوحيد لها ضمن مجتمع مشغول كل فرد فيه بحاله، فكيف لها أن تلاحق تفاصيل ودقائق حالة الزوج المفقود منذ حصول الحادثة المشؤومة لغاية تفاصيل نقل الجثمان والدفن (في بلاد الغربة او في أرض الوطن) مع كل حالة الهلع والشد النفسي والعصبي؟ وما وضع طفل بعمر الزهور؟ أين يكون وماذا يدور في ذهنه الغض وهو يرى وجوها غريبة واجمة ومآق غارقة بطوفان لا ينقطع، لا عم يحار به ولا خال يشد أزره، من له بجدة أو عمة تضمه بين أحضانها تكفكف تلك القطرات الفزعة...يا الله، ماذ ينفع البيف بركر وتكييف الهواء أمام تلك الكارثة؟ هذا كله ولمّا يعرف أحد موقف السفارة الاندونيسية التي ربما ستقف موقف أي سفارة أو ممثلية محترمة فتأخذ زمام المبادرة في رعاية تلك الاسرة المنكوبة...و لكن من للعراقي؟ وهو المغترب في بلاده والكل يعلم تمام العلم أن ممثليات دولة العراق ومنذ عقود (لا يتوهمن أحد أن ذلك من مستحدثات ما بعد 2003) لا هم لها الا رعاية مصالح موظفيها الكبار واصدقائهم فقط، هذا اذا تم افتراض انها قد تخلت عن دورها المخابراتي والجاسوسي الذي كان الهم الاول قبل 2003. لو تصور احدنا لوهلة أن تلك الأرملة الثكلى وذاك اليتيم أمير، عراقيين في احدى بلاد المهجر فأي جبال من هموم ثقال ستنزل على الصدر؟ وأي أضلع ستحتمل تينك الهموم التهون وتضمحل أمامها كل مغريات الحياة الدنيّة.

قد ينبري أحد المجادلين الى القول بأن مثل حالة ألمرحوم أبي أمير تحدث يوميا في العراق وعشرات الارامل والايتام يجدون أنفسهم أمام ذات الوضع دون أن يكونوا متمتعين بالتسهيلات المادية المتوفرة في بلاد المهجر من خدمات وسواها، وأمام هيبة وجلل الخطب ليس لنا الا ان نحني الرؤوس لشهدائنا اينما كانوا وهم بين الحنايا ولا قول الا "ٍانّا لله وانّا اليه راجعون" لكن لا ينكرن أحد عظم تأثير مواساة المكلوم ولقد ذكر لنا الاثر أهمية الاحساس بالاهل ومواساتهم بل وبكائهم في التهوين عن الصدور، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أسوة حسنة في الحضّ على عيادة المريض والمشي في الجنازة. فمن لالاف من أبي أمير العراقيين من أخت تسيح الدمع وتضم يتيمه بين أضلعها، ومن لليتيم عمّ يمسح على رأسه الصغير ومن خال يخفف نظرات الحيرة والقلق لطفل أو طفلة وجدوا انفسهم فجأة دون غطاء يدفئهم أمام صقيع الغربة في هذا العالم الواسع بعد فقدان الأب ...و الأب هيبة يا ناس لو كنتم تعلمون!!! تكاد الحروف تختفي أمام ناظري فلا أجد رداَ لذلك الكاتب المغرور بسفاسف الغربة والغربة "أرضة" تأكل الروح قبل الجسوم....رحمك الله يا أبا أمير وأنت مطمئن ان شاء الله بين يدي الرحمن، وأعانك الله أيتها الاخت المكلومة...و ....لك الله يا ولدي فلن تكفي كل حروف الكلم لدرء هول وحش اليتم الذي هاجمك مبكرا...لكم الله يا أيتام العراقيين في بلادكم ولك الله يا أيتام العراقيين في طاحونة الغربة. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1594 الخميس 02 /12 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم