أقلام حرة

الفنون والآداب في واد آخر / حافظ آل بشارة

وفي دور اشد خطورة تمارس الفنون والاداب طقوسا ممنوعة من البوح فتفجر آمال وتطلعات الجمهور وطلباته المكبوتة وتقول نيابة عنه ما يرفض قوله خوفا من سياط السلطة أو سياط التقاليد أو المحرمات والاوهام الذاتية، الشعب العراقي يشعر بوجود انفصام وقطيعة وتناقض بينه وبين حركة الادب والفن في بلاده، بدأت تلك القطيعة يوم أخذ كثير من الادباء والفنانين يتسابقون في حقبة العبودية الصدامية على تلبية رغبات نظام الحكم الاستبدادي في اطار حملة التمجيد المتهافتة والرخيصة للجلاد وعصاباته غير البشرية، اصبحت ثلة من كبار الادباء والشعراء والفنانين جزء من البلاط الاستبدادي، لكن ثلة أخرى رفضت الخضوع فكانت مثالا في الكفاح والتضحية غير انها لم تكن تشكل ثقلا كبيرا بالمقارنة مع التيار الجارف لحركة الارتزاق والتزلف، ربما يلتمس العقلاء عذرا لبعض اصحاب هذا المسلك بسبب البطش و الوحشية الهائلة، ولكن ما لا يمكن تبريره هو استمرار القطيعة والافتراق حتى بعد سقوط نظام الحكم، فقد تحولت محاور استعباد الادب والفن التي تشكلت آنذاك الى اطر دائمة وتقاليد متواصلة تحاصر المنجز الثقافي العراقي بكل اشكاله وتختمه بخاتمها المرعب بطريقة لا شعورية أحيانا، لم يعد كثير من الادباء والفنانين على الصعيد النفسي قادرين على التحليق خارج قفص المملوكية القديم، منذ بدأ التغيير في العراق كان الجمهور يتوقع ان ينعكس ذلك التحول التأريخي الكبير في الادب والفن الوطني بشكل مدو وبشحنة ابداع وحماس استثنائية، لكن ماجرى كان مفاجئة فمن جهة خفتت اصوات المبدعين الذين كانوا في صفوف المعارضة، ومن جهة أخرى واصل رموز التيار الارتزاقي ابتعادهم عن نبض الشعب وتطلعاته، واستسلموا لعجزهم عن مواكبة الحدث الكبير بذرائع واهية منها ادعاء مناهضة الاحتلال الذي يعترفون بأنه ارحم بكثير من نظام الحكم السابق، بينما يرى الشارع بذكاءه الفطري ان من غير المعقول تنصيب غلمان وجواري بلاط السلطة السابقة المستعبدين كعرابين لنهج التحرير وان كانت المقاومة حقا مشروعا للجميع لكن ادنى شروطها ان يتبناها قوم قادرون على تذوق معاني الشرف والحرية والاستقلال والكرامة، كل ما في الامر ان المقاومة المزعومة اصبحت غطاء لمحاولات اعادة النظام السابق الى السلطة فيجد الكثير من ادوات تلك المرحلة تعاطفا مع شعاراتها، وكثير منهم خرج من عبودية الطاغية ليقع في عبودية الارهاب ودعاته الجدد . هذه القطيعة هي التي جعلت الشعب العراقي يبدو راهنا وكانه لا يملك فنونا وآدابا تعبر عنه، هناك ظواهر وحالات وشعائر واهتمامات عراقية ليس لها صدى في الفن والادب العراقي، كمثال فقط : مواسم زيارة الامام الحسين ع في كربلاء التي تشارك فيها حشود تصل الى 12 مليون زائر تحركهم قيم روحية معينة تنسجم كثيرا مع مفهوم العشق الذي يغذي حركة الآداب وما يرافقه من عطاء بما ينسجم مع غايات الفن الرفيع ويحرك مشاعر وذوق الفنان الأصيل غير المستعبد، هذه الحشود تأتي مشيا من مدن بعيدة قاطعة مئات الكيلومترات الى مهبط العشق الخالد متلهفة، فيستقبلهم متطوعون لا يعرفونهم بالاسماء بل يشاركونهم الولاء فيقدمون لهم الماء والطعام والعلاج والمأوى باعتبارهم ضيوف الحسين ع، يحدو بالجميع وجد تكويني لايصدق واندماج اسطوري، هذا التعلق المذهل اطاح بكل الحسابات المادية ومنطق الربح والخسارة فالموائد المجانية تكفي الملايين، يتسابق العشاق على القدوم الى معشوقهم فيتسابق الآخرون على خدمتهم والفوز برضاهم ودعائهم، هذه المظاهر تتبلور بسبب نوع نادر من المشاعر الانسانية التي انقرضت وفارقها العالم منذ زمن بعيد، ولكن هذه الوقائع والاجواء المدهشة لا يوجد لها أي انعكاس في ادب وفن هذه البلاد مع ان الاداب والفنون وجدت للتعبير عن البعد الروحي والمعنوي للبشرية، لم نشاهد اصداء لها أو ايحاء منها في لوحة رسم او مقطوعة موسيقى او قصيدة شعر أو قصة قصيرة أو رواية أو نصب او تمثال الا النادر، ألا يوحي ذلك باستمرار هيمنة عقلية التحريم الصدامي لشعائر محرم ؟ ام لأن طوق الحكام العرب كان وما زال يشعر بالخطر من ذكر واقعة الطف ويعد الخطط كل عام لابادة الزوار؟ هل المطلوب من الفن الاصيل ان يعبر عن الأمة ونبضها أم يعبر عن اعداء الأمة ونزعات السلاطين ورغباتهم ؟ ألم نسمع الفنانين في حواراتهم الاعلامية يؤكدون بان الفنون والآداب تموت اذا لم تتواصل مع الجمهور وتتبنى قضاياه ؟ اليست هذه الملايين المتلاطمة جمهورا ؟ يعد العراق من أكثر دول المنطقة في عدد ادباءه وفنانيه ولديه تيار متواصل من الاصدارات ونتاجات الفنون التشكيلية، اسألوا أتحاد الأدباء أو جمعية الفنانين كم بطاقة هوية أصدرا لحد الآن لاعضائهما مطالبين الحكومة بتقديم اعانات مالية ثابتة لهم وذلك من حقهم واقل مما يستحقون، واسألوا وزارة الثقافة كم تضم قوائم احصائها من ادباء وفنانين هم ابناء لهذا البلد، هناك مناسبات أخرى استطعنا من خلالها ان نعرف أن العراق يملك ثروة بشرية هائلة من الادباء والفنانين كما ونوعا وبينهم الكثير من الرواد والمبدعين الذين تم تعريفهم عالميا، من تلك المناسبات التظاهرة التي نظموها مستنكرين قرار اغلاق محلات بيع الخمور والمراقص التي لم تحصل على اجازة رسمية، كان عددهم كبيرا وكانوا يشعرون بالأهانة بسبب القرار وكان بينهم رواد مسنون بلغوا ارذل العمر فانحنت ظهورهم وكانوا يرفعون اذرعهم بصعوبة واصواتهم مبحوحة منددين بالقرار . عندما يسير الشعب في واد وفنانوه وادباؤه في واد آخر ولو على صعيد المثال الحسيني وهناك عشرات الامثلة فهذا يعني وجود معادلة قلقة لا يمكن ان تستمر، أحد الطرفين يجب ان يندثر لفقدان مبرر وجوده، أما أن يندثر قطاع الفنون والآداب الحالي برموزه واطره وفلسفته تدريجيا، فتصنع الأمة مبدعيها الجدد وفنونها وآدابها المعبرة عن نبض الانسان لا نبض البلاط القديم، واما ان يندثر الشعب نفسه ليظهر شعب جديد يحتضن هؤلاء المتظاهرين ويتبعهم ماشيا مترنحا الى ابواب الحانات مودعا مواكب عاشوراء التي تذكره بالدين القديم، وهذه ليست مزحة فكثير من هؤلاء يأمل ان تنتصر ثقافة العولمة وموجة الالحاد الجديدة والاباحية الوافدة وهي مواد اولية لصناعة شعب جديد لا يعرف الحسين ع ولا رب الحسين، لا بد من الانتظار لمعرفة أي الفريقين سيندثر سلميا وبصمت كامل ؟.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1600 الاربعاء 08 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم