أقلام حرة

إرهاب الشعوذة .. اغتيال العقل واستمراء الخرافة / إبراهيم الغالبي

 التي يقدمها العلم والطب تحديدا مجرد ضحك على ذقوننا، الحل برأيه في اللجوء إلى الطب البديل بشقيه الأعشاب الطبية والعلاجات الروحانية. قناعة كانت بفعل تجربة قاسية مر بها لم تترك له مجالا سوى قول كهذا. فالغريق يتعلق بقشة كما يقال، ولهذا تعلق بالقشة التي أنقذت زوجته من الهلاك، لم تفلح الأدوية التقليدية حسب قوله في معالجتها وكان الفرج على يد أحد الروحانيين! فتحوّلت تلك القشة إلى شاطئ رحب وإلى قناعة راسخة وإلى فلسفة جديدة للحياة من حوله أعادت تعريف الكثير من المفاهيم الأولية وأصبحت بعض البديهيات محض خرافات فيما غدت بعض أشد الخرافات حقائق بديهية.

أن تسمع لمثل هذه التجربة لا شك ستخامرك الشكوك فيما تؤمن به. النتائج التي تبدو منطقية جدا ولكنها تخالف حكم العقل والتجارب الأخرى الأكثر موثوقية يعني أن هناك حلقة مفقودة في السلسلة المنطقية أو طرق الاستدلال التي حملتك من المقدمات إلى النتائج. لهذا ألححت على صديقي بالسؤال عن بعض التفاصيل المملة، أو التي لا يراها ذا أهمية. ولم يطل الوقت حتى وقفت على سرّ أو ربما عذر لصاحبي. لقد كان ضحية سعيدة لحبائل تنسجها حقيقة أننا نعيش في عالم معقد وبحاجة إلى درجة وعي عالية كي نعرف كيف نفهم مجرياته.

ليس خفيا أن انتشار ظواهر الشعوذة والدجل ينتعش في البيئات التي لا يتوفر أفرادها على درجة كافية من الوعي وخاصة الوعي الصحي. قصة صديقي المثقف ربما تضع علامة استفهام كبيرة، إذا كان الشخص المثقف غير واعٍ فكيف يكون حال الآخرين؟ والحقيقة أن الثقافة شيء نسبي وما تخلقه من وعي هو الآخر شيء نسبي، كيف تنجح الشعوذة بقلب قناعة الأشخاص الذين يمتلكون قناعات رافضة لها قبل وقوعهم في تجارب تبدو ناجحة أو التي تحقق نصف نجاح يكفي أن تجد فرقا بين أساليب العلاج الطبي وطرق الشعوذة والدجل لصالح الأخير بالطبع؟ هؤلاء الأشخاص المنقلبون على قناعاتهم السابقة يمثلون المروّج الأقوى للمشعوذين. أغلب هؤلاء يعتمدون على ظواهر ملموسة، وليس كل ما هو ملموس حقيقة ثابتة إذا ما رافق ذلك إسقاط أو تجاهل الأبعاد الأخرى للقضية. أن يتنقل أحدهم بين الأطباء دون نتيجة ثم ينجح دجّال هنا أو هناك بحل المعضلة وتحقيق الشفاء أمر لن يترك مجالا للكثيرين إلا أن يكونوا على يقين بضرورة قلب قناعتهم والإيمان بخرافة الروحانيات والشعوذة الرائجة في مجتمعنا اليوم.

في ثنايا سرده لقصة زوجته أدركت أن صديقي الذي أشرت إليه يعاني من حالة تدني الوعي الصحي بشكل رهيب. كملايين العراقيين اليوم الذين يفتقرون إلى من يهتم بتنمية وعيهم في هذا المجال الذي تبذل لأجله الدول الكثير من النفقات. أغلب الحالات التي تنجح بيد مدعي الطب الروحاني هي حالات نفسية، تنعكس آثارها على وظائف الجسم. سبب هذا النجاح سنعرض إليه لاحقا في هذا المقال. لكن لنركز هنا على أمر بالغ الأهمية يتمثل في أن العقاقير المستخدمة لعلاج الكثير من الحالات النفسية لا تعطي مردودا سريعا بل تحتاج إلى وقت يستمر أحيانا إلى بضعة أشهر، الكثيرون لا يطيقون الصبر لمثل هذه المدة. من جانب آخر فإن الأدوية النفسية تترك ما يعرف بالأعراض الإنسحابية، وذلك بعد تناولها لفترة معينة ثم تركها قبل أن تتحسن حالاتهم. الأمر الذي جعل قناعة البعض تترسخ بأن لا جدوى من هذه العقاقير بل أنها تسبب ضررا أكثر من أن تنفع. هذه نتيجة مخاتلة ومخادعة زرعت الخوف في نفوس المرضى حتى باتوا يخشون مراجعة أطباء النفس لعرض حالاتهم واللجوء إلى المشعوذين والدجالين، ولو أننا تحلينا بالوعي الصحي اللازم لما وقعنا في براثنها. إذن هناك عاملان يجب أخذهما بنظر الاعتبار، الأول هو أن الصبر على العلاج الطبي مفتاح الفرج وتحقيق الشفاء، والثاني عدم ترك العلاج إلا بإشراف طبي. الحالات التي تزيد سوءا بعد مراجعة الأطباء هي تلك التي تحدث للمرضى الذين يتخلون عن العقار الموصوف لهم بعد مدة قصيرة أو بتأثير ضيقهم من الأعراض الجانبية التي غالبا ما تكون مؤقتة وتنتهي بعد أسبوع إلى أسبوعين، وهذا هو قول المختصين في مجال الطب النفسي، ويعرفه من وجد الجرأة الكافية أو القناعة بمردود العلاج بالعقاقير الحديثة التي غيّرت حياة الكثير من الأشخاص في العالم.

لكن السؤال الذي يشغل الذهن هو حول تلك الحالات التي تستجيب إلى خرافات الشعوذة؟ كيف يشفى أولئك الناس وينجح المشعوذ بتخليصهم من أمراضهم في بعض الأحيان أما أغلب الأحيان فلا توجد هناك نتائج سوى صرف الأموال وهدرها على أوهام وخزعبلات لا أساس لها من الصحة!

بفعل معاينة شخصية فإن المشعوذ غالبا ما يكون شخصا قادرا على الإقناع، الإقناع الذي يعتبر فنا له قواعده ومن هم محترفون في مجاله. أول خطوات المشعوذ هو كسب ثقة المريض، عبر قصص وحكايات مختلقة عن قدراته والحالات المستعصية التي تمكّن من علاجها، ولهذا أثره الكبير في نفس المريض اليائس. بعض المحترفين لا يسلكون طريقا مباشرا في كسب ثقة زبائنهم، أي ليس بالحديث عن حالات علاج ناجحة قاموا بها بل بسرد قصص تبين مدى نزاهتهم والتزامهم الديني والأخلاقي وبطريقة غير مباشرة لكنها تفعل فعلها في لا وعي الضحية. يدرك المشعوذ أن الخطوة الأولى خطوة حاسمة فمتى ما اقتنع المريض بجدوى مراجعته له تزايدت فرص السيطرة عليه وتنفيذ كل ما يطلب منه. الطقوس التي تجرى أثناء المعالجة تختلف من مشعوذ إلى آخر، ولكنها تشترك غالبا بنوعية الطلاسم التي يرددونها وخلق أجواء لا تخلو من الرهبة والشعور بوجود أمور غيبية حاضرة. قد تثمر بعض الأحيان تلك الطقوس عن شيء حقيقي، وربما شفاء كامل من المرض النفسي، ولكن كيف يحدث ذلك؟

علميا هناك حالة تعرف باسم " العلاج بالإيمان" أو " العلاج بالوهم". وهي جزء من ظاهرة يمكن أن تُعرَّف بشكل مبسط كونها ( قدرة الفكرة التي يؤمن بها الشخص على إحداث آثار معينة على جسده). وفي حال كانت النتائج إيجابية كالشفاء من بعض الأمراض تسمّى الظاهرة بالبلاسيبو، أي العلاج بالإيمان.  وفي حال كانت النتائج سلبية تسمّى النوسيبو أي المرض بالإيمان. ليست لهذه الظاهرة أدنى ارتباط بمتعلق الإيمان، فلا تبنى عليها نتائج مفاضلة بين المعتقدات الدينية لأنه مهما كان نوع المعتقد الذي يدين به الشخص فإن الأمر ليس له تأثير كبير، إذ يحدث للشخص المؤمن بدين سماوي أو المؤمن بغيره ولو بالشيطان. لهذا يُفضَّل استخدام الوهم بدلا من الإيمان ليكون متماشيا مع حقيقة هذه الظاهرة المعترف بها علميا. كل ما يتطلبه الأمر لتكون مشعوذا ماهرا هو أن تجعل طقوسك مؤثرة في زبونك بحيث تلهمه درجة جيدة من الإيمان والثقة. هنا فقط يمكن أن تتوقع نجاحا في معالجة مرضه. جميع من عولج لدى المشعوذين الذين يعدون لدينا بالآلاف اليوم عالجهم إيمانهم لا غير.

في إحدى الفضائيات هناك شخص له برنامج ثابت يدّعي ادعاءات مدوية، ومعلوم أن الحالات الفردية لا يمكن أن يبتنى عليها، فمجرد نجاحه في علاج مريض من آلاف مؤلفة من المرضى لا يعني أنه امتلك الدواء السحري الناجح لكل الحالات. الحالة التي تم عرضها كانت فريدة وتحقق له النجاح فيها على فرض صحة القصة، ولكن أين الحالات التي باءت بالفشل! يذكرني هذا بحادثة قرأتها يوما عن راهب أوروبي أيام سيطرة الكنيسة جيء إليه بأحد الملحدين فقام بإدخاله إلى معرض لصور واعترافات أشخاص يقصون تجاربهم في التضرع للرب حين مروا بأهوال وسط البحار وما شاكلها. فما كان من ذلك الملحد إلا أن سأله: ولكن أين صور الناس الذين دعوا الرب ولم يستجب لهم؟

القصة هنا من باب سوق الأمثال التي لا يقاس عليها، وعموما فليس لنا علاقة بما يدّعيه الرجل الذي بشّر بأن الأدوية الطبية ستختفي تماما من الأسواق في العالم خلال السنوات الخمس القادمة! في الوقت الذي ينتظر العالم خلال السنوات القليلة المقبلة أن يتم إنتاج علاج نهائي لأمراض القلق والاكتئاب والهلوسة وغيرها بعد نجاح فريق علمي أمريكي في كشف منطقة من الدماغ مسؤولة عن هذه الأمراض. لكن لفت انتباهي قوله في حلقة عرضت قبل فترة قصيرة أن مسؤولا حكوميا رفيعا جدا وهو دكتور في نفس الوقت زاره في مكتبه وأُعجِب أيما إعجاب بقدراته واكتشافاته المذهلةَ! حدّ أن عرض عليه كما يقول القدوم إلى بغداد لكنه رفض لأسباب أمنية. يقودنا هذا إلى الحديث عن واقع مؤسساتنا الصحية ومسؤولية الجهات المعنية في توعية الناس خاصة في المجال النفسي. حيث تشير الإحصائيات إلى أن 17% من العراقيين يعانون من مشاكل نفسية، في حين لا يحظى بالعلاج منهم سوى 20% فيما يعتمد الثمانون بالمائة الآخرون على المشعوذين والروحانيين. والحقيقة أن هذه النسبة محط شك رغم أنها ليست هينة. ونحسب أن النسبة أكثر بذلك بكثير نتيجة الظروف التي مرت بها البلاد. ففي أفغانستان التي عانت من ويلات مشابهة لويلاتنا تبلغ نسبة المرضى 60% من سكانها، بل أن دولة كالإمارات العربية المتحدة على ما تتمتع به من بذخ واستقرار يعاني 30% من سكانها أمراضا نفسية وعصبية، وفي الأردن هناك 12% ممن يعاني من اضطرابات نفسية ممن هم دون الثانية عشر أي من الأطفال فقط. أما في مصر فتبلغ النسبة 38% مع وجود حوالي مليون ونصف المليون مصري يعانون من حالات الاكتئاب المرضي الحاد.

وعلى أية حال فإن شيوع وتفشي الأمراض النفسية في أوساط المجتمع العراقي لا يعد سرا وليس بحاجة إلى من يعطينا رقما محددا، وانتشار الأمراض النفسية مبرر بما عليه الواقع من مشاكل واضطرابات طالت أغلب نواحي الحياة. وهنا لا يتحمل المواطن فقط المسؤولية في اختياره أسلوب العلاج الخاطئ، لأن واقع الصحة النفسية لدينا متخلف جدا. يكفي أن محافظة كذي قار يبلغ سكانها حوالي مليوني نسمة لا يوجد فيها سوى ثلاثة أطباء اختصاص في الطب النفسي. ووحدة معالجة محدودة استحدثت قبل مدة. فيما تخصص انكلترا على سبيل المثال طبيبا لكل عشرة آلاف شخص من السكان، أي أن الناصرية لا ينقصها سوى 197 طبيبا نفسيا فقط لا غير!

الاستمرار في إهمال التوعية النفسية ونشرها بين المواطنين وعدم بناء مؤسسات متخصصة بهذا الجانب سيقود إلى تفشي أكثر لظاهرة الشعوذة التي تتنافى مع الدين والعقل، وهي إرهاب جديد يواجهه العراقيون، إرهاب يغتال العقل ويبلّد الوعي ليتم عندها تقبّل كل الخزعبلات والخرافات وتُستمَرأ إلى حد ستكون له عواقب أكثر بعدا وأعمق في تأثيراتها ونتائجها.

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1601 الخميس 09 /12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم