أقلام حرة

الوطن في مذكرات شخصيات مهمة / نبيل قرياقوس

 

ما ان تنتابني فكرة تفرض عليّ تدوينها في سبيل نشرها، تكون زوجتي هي الوحيدة التي تكتشف حالتي بعد ان تراني شارد الذهن وهي تتحدث معي في امور البيت العائلية، او امور الحر والكهرباء أو النفط والغاز أو اخر فنون التفجيرات وضحاياها من الابرياء، تحس بي حتى لو كنت اتظاهر بمشاهدة التلفاز، ولتقول لي : ها...جاء في بالك موضوع جديد؟!

تعيد عليّ زوجتي ملامتها المتكررة حول سبب عدم قدرتي كتابة المواضيع الانشائية لأبني ليأخذها في اليوم التالي لمدرسه في مادة اللغة العربية، فاكرر عليها اجابتي باني لا امتلك قدرة التصنع في موضوع يحدد لي مسبقاً، ناهيك عن اني يجب ان اكتبه باسلوب ومنطق يتناسب وعمر ابني، وهكذا تراني اجلس ساعة احاول كتابة موضوع انشائي لأبني عن (الوطن) مثلاً وخلال تلك الساعة لا اكتب سوى جمل معدودات يقراءها (وائل) فيردها عليّ قائلاً:

 بابا...خلي هذا الانشاء لك، ساكتب انا غيره، لا اعرف كيف تكتب انت في الجرائد!

بالمناسبة هناك مدرسو لغة عربية لهم اساليب ممتعة ومفيدة لتقوية الانشاء لدى الطلبة، فمنهم من يقرأ على طلبته قصة مشوقة عارضاً عليهم الصور الملونة الموجودة داخل فصولها، ومنهم من يلقن طلبته جملاً ادبية مختلفة تصلح لاختيار عدد منها في موضوع معين، اما اغلب مدرسي وقتنا هذا فهم لا يبذلون أي جهد سوى تكليف الطلبة بالكتابة في البيت.

اليوم، لا أدري ما الذي جعلني اتذكر دور الراقصة الذي أدته الفنانة الرائعة الاداء والمظهر نبيلة عبيد في الفلم العربي (الراقصة والسياسي)، هذه الراقصة التي نوت كتابة ونشر مذكرات حياتها الجنسية والتي تتضمن اسماء شخصيات سياسية رفيعة، فكان ان هزتهم نيتها تلك لكونهم لا يريدون كشف جانب من حياتهم الشخصية لمجتمعٍ شرقي يَفترضُ ان يكون قائده السياسي ملاكاً مثالياً منزلاً من السماء، وهذا ليس الواقع.

ينتهي الفلم، وما أجد فيه ما يقودني الى الحكم بان الفلم يتحدث عن محور ازدواج الشخصية لدى البعض، فازدواج شخصية الفرد وصفه العالم في علم الاجتماع الدكتور الراحل علي الوردي بانه اخلاق وتصرفات مثالية معلنة لأناس ينحرفون عنها سراً في واقع حياتهم الفعلية، واني لأرى ان ازدواج الشخصية هذا لايقتصر على شخصية الفرد العراقي حسب وانما يشمل معظم افراد المجتمعات الشرقية حيث تعاني من ظروف الكبت الفكري والسياسي تلك الظروف التي تساعد على نمو واستفحال ظاهرة ازدواج الشخصية، وعموماً اصنف أزدواجية شخصية الفرد بثلاثة اوضاع رئيسية هي:

1 .  ازدواج شخصية الفرد عند تعامله بالمال عموماً وبالمال العام خصوصاً، حيث التظاهر بالمثل العليا والنزاهة مقابل الاساءة المقصودة للنيل من ذلك المال بغير حق.

2 .  ازدواج شخصية الفرد في العلاقات الشخصية وتشعباتها، حيث الالتزام شكلياً بتوصيات قادة اجتماعيين على مختلف تسمياتهم مقابل تصرف فعلي مناقض تماماً لتلك التوصيات، ويرى بعض المثقفين القائمين بتلك المناقضات ان ذلك هو جزء من حقوقهم كبشر وليس به أي تجاوز على حقوق الاخرين، ولكنهم لا يستطيعون البوح بذلك خوفاً على انفسهم أو مصالحهم .

3 . ازدواج شخصية الفرد في جانب الحياة العامة اليومية، حيث ترى البعض ينتقد الوساطة بينما يتمناها لنفسه، وتراه ينتقد الكذب وهو يكذب، ينتقد قلة التضحية وهو اناني، ينتقد قلة الكرم والضيافة وهو بخيل حد النخاع ، ينتقد النفاق وهو خير القائمين به... وغيرها.

اقول، دعونا ننسى موضوع الراقصة (نبيلة) ولنفكر في لعبة اختيار نماذج شخصيات مختلفة وربما متناقضة من مجتمعنا العراقي ولندع لها فرصة كتابة مذكراتها بجرأة وحرية مطلقة ولتبوح كل منها بمكامن واسرار ازدواج شخصية من ترصده، دعونا مثلاً نختار اول شخصية ولتكن الموظفة الشابة الجميلة الوديعة التي تُقرر مصير أي موظف في دائرتها بحكم علاقتها بمدير الدائرة الذي لايمل عن الحديث عن العدل وتكافأ الفرص امام جميع المنتسبين، ولتكن الشخصية الثانية مراجع بسيط لاحدى دوائر الدولة الخدمية يساومه الموظفون مقابل انجاز معاملته، اما الثالثة فلتكن شخصية المقاول الذي يتقاسم ربحه الموظفون قبل ان يبدأ عمله، اما الرابعة فلنختار فيها أي عراقي يطالب بحقه في الامان والعمل والسكن والتأمين الصحي في واحد من اغنى دول العالم، أما الشخصية الخامسة فلتكن بهيئة وظيفة أو واجب يتقاعس أحد عن تأديته، ولتكن السادسة بهيئة خزنة مال عام تشكو من اياد تمتد اليها.

من يدري، فقد يأتي يوم تنشر فيه شخصيات هذه اللعبة مذكراتها علناً، وسيعرف الكل منا ما كان له وما كان عليه، وستتبين حسنات ومساوئ الجميع.

ما انا واثق منه ان اكثرنا حسناتٍ وأقلنا ازدواجاً بالشخصية هو من سيستحق ان نسميه (الوطن) .  

 

نبيل قرياقوس - بغداد

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2005 الاربعاء 18 / 01 / 2012)

 

في المثقف اليوم