أقلام حرة

المتوج بالفرادة في غربال أفروديت / نجاة الزباير

فتجربته الإبداعية الطويلة قد حكمتها رؤاه المختلفة، فمنذ بداياته وهو يراهن على الغناء خارج السرب، فكانت أعماله منفتحة على الأفق الشعري الكوني بكل آلياته المخيالية .

يقول في قصيدته "المختلف"

باختلافهِ يكتبُ كونَهُ

لا يتدثر بالنص

من قَرِّ وقت

ولا يدمن الشرب من غيهب

مورقٍ بالسراب. ( الخروج من ليل الجسد ص:83)

فهو متوحد مع القصيدة، يفترش طقوسها، ويعانق أنغامها المنسابة ضياء. 

يقول في قصيدة بعنوان "شهوة الخيال":

قَدْ عَشِقْتُ اُلْخَيَالَ رُوحًا تَجَلَّتْ فَرَسًا فِي اُلْأَمْدَاءِ تَسْبِي اُلنُّفُوسَا

وَ تَفُكُّ اُلْأَوْهَامَ عَنْ خَطْوِ عَقْلٍ خَالَ أَشْوَاطَهُ نَسِيـجًا نَفِيسَا

يَمْتَطِيهَا اُلْوِجْدَانُ صَوْبَ حَيَاةٍ ضَوْءُ أَنْفَاسِـهَا يَقُدُّ اُلْعُبُوسَا

 بهذا الخيال سطر كونه الوارهامي، فكانت أرضه حبرا يتنفس كل لغات الإنسانية.

يقول في قصيدته "مرائي الذات":

 إِنِّي الحُرُوفُ، وهيجُ الوجْدِ قُبْلَتُهَا     وَخَصْرُهَا رَوْضَةٌ مِنْ غَادِقِ اُلْفِكَرِ

أَمْتَصُّ مِنْ شَفَةِ اُلْإِشْرَاقِ قَافِيَـةً         للنَّاسِجِينَ سَمَاءَ اُلصَّفْـوِ بِاُلْغـُرَرِ

إِنَّ اُلْفُنُونَ مَرَائِي اُلذَّاتِ، نُبْدِعُهَا        كَيْمَا نَرُدَّ صَفَاءَ اُلرُّوحِ لِلْبَـشَرِ

 

هكذا تناسلت إبداعاته في كثافة، لتغني حضوره الثمل بالتفرد في الساحة المغربية والعربية.ولهذا احتفينا به في أفروديت.

 

 

 

كؤوس من سمائه:

 

1 ـ رشفة صوفية:

إن القصيدة هي  التي تـجمع في أثوابها حيرته، وتشظياته التي تفتح في صدر الأبجدية شارة لأفق يتسع لكل الأزمنة.

فالشاعر الرائي أحمد بلحاج آية وارهام؛ أبدع في أن تكون له بصمته الخاصة في كل المعارف التي سكنته، والتي سكبها بين شفتي الشمس؛ لتخلق بأشعتها هرما مغايرا للمألوف. حيث لحانته الروحية أسفارا بين عالم الرؤيا والحدس، والمقامات والتجليات. يقول في "النجم الغرار" :

"سافرت أنا الغريب الروح إلى أن بلغت مجرة يوح، فلما وصلت قرعت باب الحمى، فقيل لي  من أنت أيها الطارق العاشق؟

فقلت:

عاشق مفارق، أخرجت من بلادكم، وأبعدت عن سوائكم، فقيدت بقيد السمك والعمق والطول والعرض وسجنت في سجن النار والماء والهواء والأرض وقد كسرت القيد وأتيت أطلب خلاصا من السجن الذي فيه بقيت.." ( "العبور من تحت إبط الموت"ص:16)

 

إنها جماليات وإشراقات تزحف بنا نحو عتبات مفعمة بالأسرار، لأن خطابه يخترق عالم المكاشفات والإشارات، فتجاور الشاعر والصوفي داخله كما يقول: "هو تَجاوُرُ جناحين خائضين في لانهائي الخيال بروح الفتنة البهية، وحيرةِ اللذةِ السامية. فهما سفيرا النور في جميع الحضرات، كائنان دومًا خارج المألوف، يشيران إلى أن هناك باطنا ينتظرنا إذا نحن أصغينا بحرية إلى إشاراته السرية.. فالصوفي والشاعر يُحلقان في ضوءِ مجهول اللانهائي".

هكذا تتعانق لغة الصوفي مع لغة الشاعر، لتنسج من الفنية الرمزية الباذخة أغصان فتوحاتها في كل دواوينه الشعرية، والتي تصطلي بنار المكابدات الذاتية.

 

رشفة غزلية :

 

إن قصائده الغزلية وطن ربيعي، تكتبنا نهاراتها بغيم يمطر سحرا، فها هو الشاعر في قصيدته "أنا لك شمس"*، يتكلم فينا لغة شفافة تعانق الهوى، في رومانسية تحيط الحروف بريقا، وتصلي في رئة الحلم مستنشقة عطر الحرية.

 

لكن هذا التنقل بين بساتين الروح بدون أدنى قيد لم يستمر، لأن غواية الجمال أسقطته في شراك السهر، فانثنى العمر يتغنى به، فكانت يده فجرا تتهادى فوق خطوطه كل الأماني، أوليس شمسا تغنت لدفء الجمال؟ يقول:   

يقول:

ليتني ما عرفت الهوى في الليالي      أو نقشت الخلود بأيدي الخيال

كنت في خافقي أتجلى؛ كما   يتجلى السنى فوق شُم الجبال

ليس لي شاغل غير سحر الربى       وابتسام المنى بين روض الدوالي

أحتسي من شفاه الصباح وجو          دي، وفي ناعم النور أدفىء بالي

كلما لمعت في الحنايا النجو  م؛ تغنت ضلوعي بفجر المآل

غير أن عيوني كالفراش تعب الرضى         من لظى؛ ظل في مهجتي كالظلال

فإذا العمر تهتز أغصانه       مثلما الصدر هزته كف السعال

هل ترى؛ يا بريق الورود الذي        أحرق القلب؛ حُزْتِ نعيم الأعالي؟!

أنت لم تفلتي من شراك الضنى        كل حلمِك عاد كقصر الرمال

فلتمدي يديك، فلن تجدي       غير قلبي الذي ضاء بين الرجال

قد ظننت التهاديَ يتلفه         كيف...وهْو شفيف كروح المعالي

أنت..يا أنتِ؛ لا تغضبي. فأنا                 لك شمس، تغـني لدفء الجمال

 

رشفة النهاية:

لقد كان العدد الخاص بهذا الشاعر، غنيا بالأقلام التي أضاءت فضاءه محليا وعربيا، والتي أحاطت بجوانب من إنتاجاته الفكرية والشعرية المتعددة، ولقد حاولنا أن نستضيء برسائل خلانه من الشعراء والمهتمين بالشأن الثقافي، كي نسلط الضوء على بعض خصوصيات كتاباته الشخصية، لكن ما فاجأنا، هو أن الشاعر في غربال كل من عرفوه، نهر يصعد في الأزرق. هكذا أسس لتميزه إبداعيا وإنسانيا، فكان مفخرة لهذا الوطن.

 

................

*شاركت هذه الورقة في حفل توقيع كتاب "متوجا بالفرادة يأتي" الصادر عن منشورات أفروديت 2011، يوم السبت 14 يناير 2012 بمؤسسة أريحا للتعليم الخصوصي.وقد قدمت فيه لوحات تشكيلية من توقيع الفنان التشكيلي المتميز لحسن فرساوي للشاعر المحتفى به.

 *منشورة في مجلة "الأديب لعام 1995

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2013 الخميس 26 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم