أقلام حرة

احداث بور سعيد .. امر دبر بليل / جمال الهنداوي

وسنوات الكفاح والصمود واغاني ام كلثوم الثورية التي سكنت ذاكرتنا وادعة غافية على ساحل الحضارات لتحل مكانها كالكابوس الجاثم القابض للنفس صور لجثث فتية وشباب معفرة بمشاعر غضب مضطرم من كرة جلد وهواء أبت ان تدخل في المكان الذي كانوا يتمنوه..صور لشباب بعمر الورد يتساقطون على الارض التي لطالما اختزنت آمالهم واحلامهم ومنتهى طموحاتهم وشهدت وقائع خالدة في تاريخ الكرة المصرية هاربين من الموت الذي يتلاقفهم في مشهد يدمي قلب المحروسة ويجرح تاريخها التليد ..ولكنه في نفس الوقت لا يخلو من ريح سوداء لافحة تريد ان تسود وجه الشباب المصري الثائر..

سنوات سود .. وخبرة طويلة تحصلنا عليها من معايشتنا للانظمة القمعية الاستبدادية واساليبها الخبيثة في تصنيع واختلاق الازمات..هي التي تجعلنا نميل الى القناعة بالتقارير الاعلامية التي تحدثت عن انسحاب يبدو انه مبيت لقوى الامن المصرية المكلفة بحماية الملعب الذي جرت عليه المباراة..وهذه الخبرة نفسها هي التي تجعلنا لا نحتاج ان نكون متواجدين في المدرجات لنتوصل الى ان هناك شيئا مريبا كان يعد له في نهاية المباراة التي جمعت بين فريقي الاهلي وبورسعيد..ونظرة خاطفة الى شاشات التلفزيون التي اسرفت في عرض الجماهير وهي تركض متتخللة صفوف القوات الامنية المصطفة بانضباط قد لا يكون في محله ولا مكانه تدفع بنا مباشرة الى توقع ان جزء كبير من الاحداث قد دبر بليل وعتمة كهوف الثورة المضادة المتخفشة بالرغبة العضال باسقاط صورة الشاب المصري الرمز الذي يدفع بيديه الخالية غائلة عقود طوال من الديكتاتورية والاستبداد..

ليس خلافا على نتيجة المباراة ولا تذمر خائب من قرارات حكم مسلح بصافرة وكروت هو ما كان يتحكم بمشاعر الجمهور..بل هو استهداف واضح وصريح للشباب المصري برمته هو ما كان يجري على الارض المدنسة باقدام الجناة.. وحنق مكبوت من شباب الانتفاضة والثورة الذي ادهش العالم كله واجبره على اعادة قراءته للواقع العربي حسب معطيات واشتراطات الخطاب الثوري الوطني الملتزم هو ما كان يحرك الاحداث..ولم يكن الهدف الا محاولة رقيعة لطرح نموذج الشباب الطائش المنفلت المفتقر للشعور بالمسؤولية الوطنية والتي تتحكم به ردود الافعال الغريزية المتشنجة في احط دركاتها..ووضعه كمناظر للحراك الشعبي الذي قاده الجيل الواعي الصاعد المعلم الثوري المناضل في مصر..وقدم من خلاله دروسا ومآثر ستظل تنير الدرب للوطن والامة عبر الاجيال..

ليس رغبة في العودة الى نظرية المؤامرة..ولكن حتى السذاجة لن تكون عذرا لتغافلنا عن الجهة التي تستطيع ان تجند هذا العدد من شذاذ الافاق والخبائث التي تساقطت من بين ثنايا مكنسة الاحداث التي مسحت النظام السابق من على وجه الارض..والذين يتكرر انبثاقهم على الهواء قبل كل استحقاق سياسي او دستوري يجرجر خطاه المتثاقلة في دروب المرحلة الانتقالية المربكة..كما انه لن يكون من الصعب توقع القوة التي تقوى على تثبيت قوى الامن في مواقعهم في خضم كل تلك الفوضى العارمة التي تضرب في ارجاء الملعب وتستييح ارضيته وجماهيره وتوقع كل تلك الاصابات باسلحة لم يكن لها ان تكون في متناول ايدي الغاضبين لولا بعض الغفلة او التواطؤ الرسمي..

رسالة واحدة يمكن ان تتلقفها ايدينا من مثل هذه الممارسات ..وهي نفسها التي ما فتأ المجلس العسكري ارسالها –ملطخة بالدم-الى العالم ما بين حين وآخر..وهي ان الاوان لم يحن لفطم الجماهير من حكم المستبد القوي العادل..وان الفوضى والضياع هما النتيجة الحتمية لجحود الرعاع المتآمرين الذين عضوا على الايادي البيضاء لاسيادهم وتطاولوا على عروش زعمائهم المتكلسين عتقا وجمودا.. وهذا ما يرتب على شباب الثورة ان يعوا ان الاوان لم يحن بعد لارخاء اليد عن سلاح القيم العظمى التي بنيت عليها الانتفاضة الشعبية المباركة..وان اعداء الحرية والشعوب ما زالوا يحتفظون ببعض القدرة على ايذاء التجربة المصرية التاريخية في انجاز حلم الانبياء في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية..وان اللجان الشعبية الثورية التي حمت الثورة وكانت رأس النفيضة ضد الثورة المضادة التي قادها ازلام وبلطجية النظام..والتي اسقطت فكرة الانفلات الامني المصاحب للحراك الشعبي..والتي قاومت اعمال السلب والنهب المنظمة التي اراد بها النظام حرف مسار الثورة عن اهدافها النبيلة..والتي استطاعت بانضباطها ونقاءها الثوري ان تفشل كل محاولات التأثير على شعارها الوطني الوحدوي الجامع الشامل..مطالبة اليوم بحماية روح الثورة وصورتها الناصعة والمسيرة التي خطتها بدماء الشهداء والهادفة الى ترميم ما هدمته الايام وممارسات النظام السابق من سمعة مصر ودورها القيادي..ولتقليل حجم الاسف الذي احس به كل مواطن عربي يشهد أمل الامة وفخرها وبناة غدها المرتجى وهم في هذا الوضع المنفر الشائه..

الرحمة لشهداء مصر ..والعزاء للمحروسة ..والدعاء بان يعوض الله شعب مصر بدماء ابنائه الغالية امنا وامانا وحكما مدنيا رشيدا..

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2019الجمعة 03 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم