أقلام حرة

الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، الصقور لا يهمها أين تموت / أحمد النظيف

ما أحست به غير زيتونة

ألف قلب لها على كل غصن بالجليل

شفرته إلى الأرض وارتفعت

قبلت قدميه

فلقد جاء في الزمن المستحيل

آه من ومض عينيه

في الانبساط السماوي يكشف موقعه

 

كان ذلك مطلع قصيدة الشاعر العربي مظفر النواب يزف بها أبطال عملية الطائرات الشراعية أو ما عرف بعملية (قبية) تلك القرية الجريحة التي استباحتها العصابات الصهيونية عام 1953 بقيادة السفاح شارون وإمعانا في ترسيخ ذاكرة العربي المقاتل وليضل كل شبر من فلسطين منقوشا في أفئدة الصغار قبل الكبار حملت هذه العملية البطولية اسم (قبية) لتستقر وصمة عز على جبين التاريخ.

ما يهمنا في هذا المقام شيئان الأول أننا احتفلنا  أواخر العام المنصرم وتحديدا في 25 ديسمبر – كانون أول بمرور الذكرى الرابعة والعشرون لهذه العملية النوعية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني  نحتفل بها وقد تحررنا من أغلال الديكتاتورية وبدت الأمة تسقط طغاتها صنما تلوا صنم والأمر الثاني أن من شهداء هذه العملية بل من قادتها الرفيق الشهيد البطل ميلود بن ناجح نومة ابن الجنوب التونسي الآبي وتحديدا من قرية سيدي مخلوف بمدنين سافر إلى لبنان أخر الثمانينات لا شئ  يشغله سوى القتال والقتال حتى الرمق الأخير من اجل تحرير فلسطين..فلسطين التاريخية الكاملة من النهر إلى البحر ..رحل من بلدته النائية في زمن تراجعت فيه المبادئ وانقلبت فيه القيم فأصبح التمسك بالنضال ضربا من ضروب التطرف والرجعية والتخلي عن الثوابت والأرض والعرض نوعا من الحكمة بل قل شيئا من العقلانية والواقعية وأصبحت فيه الخيانة وجهة نظر ...رحل إلى ساحات الكفاح المسلح والعالم يستعد لدخول مرحلة جديدة ..مرحلة القطب الواحد والسيد الواحد أما الوضع العربي فكان يعيش شيئا من البؤس المقيت فالمصريون مرتهنون إلى تفاهمات كامب دفيد المذلة والعراقيون مازالوا يستنزفون طاقاتهم في حرب حدودية مع إيران أما الفلسطينيون فكانوا في حالة سيئة للغاية خاصة بعد اجتياح بيروت وتفشي ظاهرة الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني في المخيمات وحرب طرابلس هذا الضعف الذي استغلته أطراف بعينها لتربط صلات بالكيان الصهيوني والتي ظهرت بوادرها في مؤتمر مدريد لتنتهي باتفاق أوسلو .

في هذا الجو القاتم رحل ميلود من قرية سيدي مخلوف الهادئة مؤمننا كل الإيمان بأن الطريق إلى فلسطين يمر حتما عبر البندقية وفي صباح 25 ديسمبر 1987 اقلع نسر الخضراء على متن طائرته الشراعية صحبة رفاقه من إحدى القواعد العسكرية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة- لينزلوا بمنطقة الجليل الأعلى على الحدود اللبنانية ولتداعب أقدامهم تراب فلسطين للأول وأخر مرة في حياتهم قام ميلود ورفاقه باقتحام معسكر قيادة المنطقة الشمالية للجيش الصهيوني والذي كان يسمى معسكر الأبطال من لواء جولاني وبعد معركة دامت زهاء التسعين دقيقة انسحب الفدائيون إلى قواعدهم بعد أن أوقعوا ما يزيد عن 35 عسكريا صهيونيا بين قتيل وجريح بينهم ضباط يحملون رتب عالية هذا عدى الخسائر في العدة والعتاد .

وفي طريق العودة إلى القواعد أصيبت طائرة البطل ميلود وسقطت فوق مرتفعات قرية حلتا الجنوبية فاضطرت للهبوط ليشتبك بمجموعة من جنود العدو في معركة أسطورية دامت حتى ساعات الصباح الأولى انتهت بأن ترجل الفارس عن جواده لتستقر روحه الطاهرة على كرسي الشهادة بعد صمود خرافي قل له نظير ليؤكد ورفاقه أن ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة وإن أي محاولات كانت أو ستكون لقتل القضية في النفوس أو تسوية الصراع بالتنازلات المذلة هي محاولات فاشلة وأن ما يزعمه البعض من استحالة هزم العدو أو أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر إنما هي مزاعم واهية فندتها سواعد الأبطال في (قبية) وغيرها من مشاهد العزة لتعيد الثقة إلى نفوس الجماهير العربية ولتعيد الثقة إلى شرعية البندقية كحل جذري أمام الاستكبار الصهيوني.

الآن وأنت على باب الأبدية يا ميلود وقدمت روحك فداء لفلسطين العزيزة..لا تقلق نحن لا ننسى شهدائنا لن ننسى دمائك المهراقة على ثرى الجليل وروحك التي سترفرف في سماء هذه الأرض التي عليها ما يستحق الحياة ولن ننسى أبدا أيها البطل انك قدمت نفسك هكذا وبلا ثمن عن طيب خاطر لتنير بها لنا الطريق ليس الطريق إلى أوسلو ولا إلى مدريد انه الطريق إلى فلسطين من النهر إلى البحر بنقبها وجليلها وساحلها وقطاعها وضفتها بكل شئ بالزيت والزيتون والزعتر  .

سلام  على روحك ....

 

أحمد  النظيف - باحث من تونس

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2019 الجمعة 03 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم