أقلام حرة

المقاومة اللبنانية: بين التحديات والانجازات / جابر مسلماني

ومكانة ليس من البسيط والسهل أن يسلم بخلخلتها بسبب صعود خطاب جديد مختلف ، الخلخلة والاهتزاز وأخواتها، مداخل طبيعية إلى التقوض، والاستقالة غير الطوعية، من مربعات الحضور، وامتيازاته، وامتلاك الحاضر والمستقبل السائِلين في جينات من حجزت لهم أنظمة ثقافية من نوع خاص مقاعد متقدمة على "العامة" في كيانات الطوائف، والأحزاب، وما شاكل، محاكمة ذلك تعود للنظام الاجتماعي والثقافي المستقيل عن مقاربة المعاصرة ومقتضياتها، بعيدا عن إدعائها.

من الإشكاليات التي تواجهها أي مقاومة أو حركة تحرير عند انطلاقها، هو سؤال الجدوى، والاقتدار، سؤال الممكن والممتنع، قد يكون ذلك مشروعا من ناحية تقييمات موازين القوى وضرورة إبعاد كأس <<الانتحار>> عن الجماعات المضطلعة بالمقاومة وإرادة التحرير في بداية تشكلها، إشكالية سرعان ما تتلاشى أمام القواعد الكونية الاستقرائية لحركات المقاومة نشئا وارتقاء وصولا إلى تحقيق الأهداف المنشودة في أوطانها والمدونة في شعاراتها .

 لبنان ليس بدعا من تلك المقاربة، بل يشكل أحد أوضح تجلياتها، لا تنسى ذاكرة المقاومة واللبنانيين، أسئلة من هذا النوع، عن الجدوى، من <<اهراق>> الدماء على طريق التحرير، سيما وقد كان ركز في العقل الجمعي اللبناني تقريبا وفي الطبقات التحتية من هذا العقل أن <<إسرائيل >> فولاذية القرار والتمدد، وجيشها - الذي لا يقهر-ممتنع على أي مقاومة، وحزمة الجيوش العربية، في معارك كبرى، لم تستطع إخماد صوته وإرادته في الاحتلال وديمومته، بمعزل عن الموانع.ولطالما اعتبر ذلك دليلا وملاذا جداليا أحيانا.

ما فعلته المقاومة خلال سني جهادها التراكمي الاصراري ونضالها التصاعدي النوعي، يدخل ثقافيا في سياق الأجوبة الإستراتيجية عن سؤال الممكن والمستحيل وأسئلة الآفاق، استطاعت المقاومة بمزيد من الإصرار المذهل والمعجز تأمين أجوبة عن دوائر الممكن الاستراتيجي وآفاقه تحققا وتحقيقا، لقد أنتجت المقاومة في مدى الدوائر العربية والإسلامية واللبنانية ضمنا فلسفة مباينة وعلى النقيض من أفكار ورؤى كانت تحوز على السيادة في طرائق خطابها لعدم توفر البدائل النظرية لمغايرة الكائن والمتحقق في الحد الأدنى. فلسفة جديدة تقوم على ركائز أخرى وأنظمة تفكير من نوع آخر، لم يتعود الواقع العربي على خطاب يتلو أفعالا بالمعنى الرمزي للكلمة ويبني عليها فعلا مرتقبا، وموعودا بحكم الناجز، فلا يزال الجدار العربي السياسي، والخطابي مملوءا بشعارات لم تمش على الأرض ولو حبوا، طوفان من الوعد الداخلي، والوعيد الخارجي المستحق، مكبل بتخشب وتصلب مهيمن وانسداد كبير بلا فجوات يمكنها أن تطالعه بجنين أمل على الأقل.

ما صنعته المقاومة في لبنان إذا، أنها قوضت وبحق هيمنة الخطاب العربي الرسمي الذي حكم لعقود، ولم يستطع أن يقود ويتصدر قضاياه الكبيرة والماثلة أمام شعوبه، سواء كان السبب عدم إرادته أو عدم قدرته على تصور البدائل ومن ثم إنتاجها وترسيخها في مباني السياسة النظرية المؤسسة، ومن ثم تسييلها وتحقيقها في الواقع.) الثورات العربية دليل).

وبمعزل عن ذلك، المقاومة أعادت صياغة الوعي العربي والإسلامي من جديد ضمن مدرستها التي شيدتها بالدماء وإدارتها غير المسبوقة لهذه الدماء الساخنة -نظرا لخصوصية المكان المشتبك داخليا وخارجيا- المتراكمة على مدى جهادها وإبداعاتها الثورية،  وجهاد كل حركات النضال الوطني، وتضحياتها، وصولا إلى عام الخلاص الوطني الكبير في لبنان عام 2000.

التحرير رسخ المقاومة، بمقدار ما خلخل بقوة الواقع الإسرائيلي، المنتج عن حلم تاريخي ضارب في العقود والقرون، متقاطع مع إرادة دولية، على خلفية المصالح التي تتصدر أجندات الإمبراطوريات، ومصادر النفوذ ودوائرها.

صدعت المقاومة منطقة الأمان الوجودي، في عقل صناع القرار ومؤسسات التفكير الإسرائيلي، ووصل صوتها العتيد إلى كافة شرائح وتشكلات المجتمع الإسرائيلي، وهو احد أهم انجازاتها الإستراتيجية، وفتوحاتها في البنية الأساسية المكونة للاوعي هذا المجتمع، وهنا تحديدا مأزق هذه الدولة الاصطناعية والمفروضة بقوة لم تعد فاعلة وضامنة .

إذاً، هُزمت إسرائيل بالتحرير المجيد، واعتمل عقلها الاستراتيجي، الوجودي، لضرورات الهيبة، وقواعد ضربات الجزاء، فحاولت بأقصى ما أوتيت من قوة وبتغطية دولية، ومن كل حدب ومكر معلنين، أن تدمر المقاومة عام 2006، لإزالتها والحد من مشروعها، وتجليات حضورها، وإلهامها وصياغتها للوعي العربي والإسلامي، وتوجيهه إلى قبلة التحرير المركزية <<فلسطين>>، وكانت النتيجة أكثر إيلاما وأكثر تجذيرا للمقاومة وخطابها ووظيفتها الفكرية الإستراتيجية، هزمت إسرائيل أيضا .وباتت قوة المقاومة تهدد حتما الأحلام، التي نام ديفيد بن غور يون في قبره قرير العين برسوخها وسلامة تمددها .

كل حرب خاضتها إسرائيل، كان يرقد خلف صواريخها وخرابها، وعقول صانعيها، قليل من الحبر تريد توقيعه بالقوة على الأوراق العربية الموصوفة بالتنازل المريع والمحرم بكل المعايير، حبر على أوراق تفاوضية تفاهمية، تعطي لإسرائيل ما إرادته من خلال الحروب والمنازلات العربية، ويضمن أمنها وعلوها، وسطوتها في المنطقة وعليها.

وجدت إسرائيل نفسها أمام حبر من نوع آخر <<لايمكن أن يجتمع مع حبرها على ورقة واحدة>>، هذا المضمون ألثوابتي أعلنه سماحة السيد حسن نصر الله أثناء حرب نيسان الوسطى، لم تكتف إسرائيل بهذا الإعلان الواضح والصريح من أعلى لسان في المقاومة بداية، بالرغم من اعتيادها على صدقه وعدا ووعيدا.

باعتقادي أن ما فرض على إسرائيل الاكتفاء والاعتقاد بهذه الثابتة، وما أسس لقواعد راسخة مباينة لمنظومة الأوهام الإسرائيلية، هو تحديدا استشهاد هادي نصر الله، بعيد ذلك تم خروج إسرائيل من لبنان، والتأخر النسبي فيه كان لضرورات استدارة قرار مصيري، منذ ذلك الحدث الزلزالي في العقل الباطني الإسرائيلي وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع عقائدي لم تشهده في تاريخها، ومآل وجودي لم تتوقعه من قبل في كل أطوارها .

معنى استشهاد هادي نصر الله، وفي قلب المواجهة الصعبة مع إسرائيل، وعن سابق تصور وتصميم للشهادة وعليها، والدا وقائدا، وإبنا وشهيدا، معنى ذلك (كما فهمته إسرائيل تحديدا أكثر مما فهمه كثيرون)، أن من يوَقِع بدماء ولده على جبين إسرائيل بحتمية الإندحار، لا يمكن أن يتنازل عن المقاومة بتوقيع حبر اعتادت على تحصيله إسرائيل بأشباه الحروب أو أغصان الزيتون الماكرة

معادلة لا بد من التحديق بها هذه الأيام وكل الأيام.

 

الشيخ جابر مسلماني

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2021 الأحد 05 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم