أقلام حرة

علموا أولادكم السياسة

ذكر هذه الكلمة التي تعني في قاموسهم الحياتي الإحباط والمعاناة والمكابدة والمطاردة والسجون والتعذيب والقتل. ومتى ما ذكرها أحدهم تشمخ أمام ناظريه وحشة نقرة السلمان وسجن خلف السدة وسجن رقم واحد وأبو غريب وسجن محكمة الثورة وسجن جهاز المخابرات وسجن الحاكمية وسجون الأمن العامة وسجون المحافظات، فتهتز أمامه قيم الرجولة وترتعب فرائصه خوفا لأن دخول أي سجن منها يعني المشاركة القسرية في رحلة (الصد ما رد) أو السفر ببطاقة ذهاب فقط

كان مفهوم السياسة في عرف الحكام يعني معاداة السلطة الحاكمة والنظام والاصطفاف بجانب أعداء الثورة والأمة العربية الواحدة ويعني العمالة لدول الجوار والجاسوسية وكل تهمة تقود إلى المشنقة أو الموت تحت سياط الجلادين أو مثارم اللحم البشري أو أحواض التيزاب أو التفجير. لذا كان المواطن العراقي لا يأبه لأي تهمة أخرى تنسب إليه بقدر ما يهتم لأمر تهمه سياسية تافهة حتى ولو كان ذلك على سبيل المزاح.

كان مفهوم السياسي عند محترفي وممتهني السياسة الرسميين يعني أنك شيوعي أو قومي أو بعثي أو ديمقراطي أو إسلامي، ولم يكن لكلمة (وطني) أي وجود في هذه المصفوفة فالوطني بمفهومهم يجب أن لا يكون سياسيا!

وهكذا كانت مجموعة  الوجوه الرسمية النافذة تسيطر على دفة النظام السياسي في البلاد وتقود العباد وهي المرشحة دوما والمرهلة للمناصب الوزارية وكل المناصب الكبيرة الأخرى  حتى ولو لم تكن تحمل أي مؤهل علمي أو جامعي، وحتى لو لم تكن تعرف القراءة والكتابة!

 أما من يتهم بأنه سياسي أو بأنه قريب لأحد السياسيين ومهما كان تخصصه العلمي عاليا ، فكان يحرم من كل الحقوق بما فيها حق التعيين في وظيفة كاتب في ابسط دائرة من دوائر الدولة ولا يحق له الالتحاق بزمالة دراسية أو دخول دورات تخريج الضباط أو التعليم أو السلك الدبلوماسي وحتى السفر إلى خارج البلاد!

أما بعد عام 1968 فقد تغيرت النظرة للسياسي وتغير مفهوم السياسة والسياسي حيث بات لزاما على العراقي أن يكون سياسيا (بعثيا) وأن يلتحق بصفوف الحزب، أما من يرفض الانتماء فهو بمفهوم قيادة الحزب إما معاديا أو عميلا أو مرتبطا بدولة أخرى، حسب الشعار سيء الصيت (إما معنا وإما علينا). وقد استمر فهم السياسة والسياسي بهذا المعنى لغاية سقوط نظام البعث في 2003 ودخول قوات الاحتلال.

أما بعد هذا التاريخ فقد تبين وبقدرة قادر أن كل العراقيين سياسيون، والسياسة تجري في عروقهم، فكثرت الأحزاب لدرجة حدوث أزمة حقيقية في التسميات والشعارات، وكثر السياسيون لدرجة أن غالبية الشعب عدت نفسها من ضمن صفوف العاملين بالسياسة. فتحولت السياسة إلى هواية ومهنة وطريقة عيش وواسطة للتبجح وطلب للمنافع وتخريب للنفوس وتمزيق للبلاد وهتك لحقوق العباد. ومن بين هذا الحشد الفسيسائي الملون الهائل يصعب عليك أن تجد سياسيا حقيقيا يعرف معنى السياسة، فهم إما باحثا عن تمجيد ألذات، أو بانيا لأمجاد الشخصانية، أو مرتشيا ومن المفسدين إداريا وماليا،أو أجيرا لهذه الدولة أو تلك، أو من عناصر الجاسوسية، أو من مروجي الفتن وزراع الفرقة، أو يضمر للعراق حقدا دفينا ويروم تخريبه وتدمير شعبه.

 وفي هذا الحشد التخريبي الكبير ضاع السياسيون الحقيقيون القلة، وغابت أعمالهم الخيرة الشريفة تحت أكداس العمل الشرير لدرجة أن الناس لم تعد تعتقد أن هناك من السياسيين العراقيين الحاليين من يعمل بشرف روحه الوطنية لبناء مجد الدولة العراقية.

 وجراء هذا الزخم الحزبي والفكري الكبير انتقلنا من مرحلة التحضر والمدنية إلى مرحلة التوحش والافتراسية ووضعنا قواعد قتل الآخر وهتك عرضه وسلب ماله وتهجيره وذبحة وحرقه ومصادرة حقوقه والتشكيك بعقيدته سواء كانت دينية أو فكرية. وكردة فعل على ذلك أحجمت الفئة الخيرة الصادقة الوطنية عن الخوض في السياسة إما لأنها لا زالت تحمل أرث عذابات الماضي وعلامات التعذيب التي تطرز جسدها، أو لأنها لا تريد أن تتلوث بالأمراض المجتمعية الفاشية في عالم السياسة القائم أو لأن أغلب النماذج السياسية المعروفة أساءت للسياسة ولم يعد من الافتخار الانتماء إليها، أو خوفا بأن تتهم بما يتهم به السياسيون الحاليون.

كل هذا يضعنا أمام مفترق طرق أحدها أن نوافق على ما يحدث ونرضى بواقع الحال ونسكت، والآخر أن ندخل ونناضل لكي نثبت وجودنا كسياسيين حقيقيين ووطنيين، والآخر أن نعترض على كل العملية السياسية ونطالب بالتجديد الجذري، والآخر أن نشارك باللعبة ونشارك الآخرين بتقاسم الغنيمة قبل أن تفوتنا فرصة الكسب السحت المتاح. وأفضل الخيارات أن ننبري لدعم السياسيين الحقيقيين المخلصين بعيدا عن انتماءاتنا الطائفية والفئوية والعرقية والدينية والحزبية خوفا على عراقنا من الضياع. وأن ندوس على جراح المرحلة الماضية وننسى الخلاف.

والأهم من هذا وذاك أن نربي أبنائنا وأجيالنا الصاعدة وشبابنا المتعلم الحريص على قيم السياسة الحقة والروح الوطنية لكي لا يعيشوا مأساتنا من جديد، ولكي يصبحوا أهلا لقيادة العراق الواحد الموحد في غمار مستجدات ومفاجئات القرن الحادي والعشرين. ونحن بعد أن زرعنا في نفوسهم من قبل الخوف من السياسة يجب أن نفهمهم الآن أن السياسة علم كباقي العلوم يحتاج للتخصص كما تحتاج التخصص باقي العلوم، والسياسيين من نخب المجتمع المثقفة لا تقل خدماتهم لوطنهم عن خدمات أي مجد ناشط آخر، وإنهم يجب أن لا يتخلفوا عن طلب هذا العلم وولوج عالمه الرحب فبالسياسة تبنى البلدان وتتطور وتحمي نفسها وتحصل على حقوقها وتساير باقي الأمم. وعليهم أن لا يصابوا بالإحباط نتيجة المناظر السياسية السيئة الماثلة أمامهم فيصبوا جام غضبهم على السياسة والسياسيين. فالسياسة لعبة نبيلة لم يعرف السياسيون العراقيون كيفية لعبها بعد، أي أن الخلل موجود في اللاعبين أنفسهم وليس في اللعبة، فإذا خلقنا ودربنا لاعبين جدد يفهمون قواعد اللعبة ويعشقون أدائها سوف تتغير الكثير من المفاهيم، وذلك ليس صعبا على شعب وبلد قضى كل تاريخه يأكل ويشرب ويتنفس سياسة.  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1188 الأحد 04/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم