أقلام حرة

دوامة الربيع العربي .. الجاهلية الأولى / مهدي الصافي

 لتدمير مثلا الجمهورية العربية السورية، وتعطيل دور جمهورية العراق الجديد في المنطقة (لتعطيل عقد قمة بغداد المؤجلة، وامتناعها عن إطفاء الديون-وحث دولة الكويت على خنق منفذ العراق البحري بميناء مبارك الكويتي-إضافة إلى دعم الإرهاب)،

بينما كانت نائمة لعقود على كل ماسي وكوارث العدو الإسرائيلي الموجهة ضد أبناء شعبنا الفلسطيني واللبناني والعربي عموما، وغاب عنها وعنهم الضمير الإنساني عندما ذبح طاغية العراق المقبور عشرات الآلاف من أبناء شعبه بعد انسحابه المذل من مؤامرة الكويت عام1991،

وهاهي اليوم تضع خطا فاصلا لتوجهاتها الطائفية بين ما يحدث من جرائم وتصفيات جسدية حكومية في البحرين مع تفاهة بعض أمراء البترول المهرولين خلف القطار الأمريكي-الأوربي، وبين تصفية الحسابات الشخصية والامبريالية في المثلث الشيعي (العراق- سوريا - لبنان)، خدمة للمطامع الاستكبارية الشرهة للعودة إلى عصور الاستعمار في المنطقة، متشحة بلباس حديث للنظام العالمي الجديد للعولمة التكنولوجية.

يقول معظم الكتاب والباحثين والمفكرين العرب إن الشعوب العربية غير مهيأة للتجارب والأنظمة الديمقراطية، ففي المؤتمر السنوي الحادي عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية عام 2001 بكلية سانت كاثرن-جامعة اكسفورد، تحدث مجموعة من النخب العربية المعنية بالشؤون السياسية حول الاعتراضات والتحفظات السلفية والقومية والعربية على الديمقراطية،

وكان للسيد برهان غليون حامل لواء المعارضة السورية حاليا، عدة مداخلات واعتراضات على أوراق البحث المختلفة في المؤتمر، منها مداخلته على ورقة البحث المقدمة  "الديمقراطية والنخب العربية "من قبل الباحث محمد الرميحي الذي أشار إلى مناطق الاعتراض والتحفظ على مشروع الديمقراطية في الوطن العربي، محددا أهم تلك الأزمات المتصدرة للمشهد العربي،  هو تراجع كفاءة وثقافة الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية (التي انعدمت وتحطمت تقريبا في بعض الدول العربية العراق نموذجا)، إضافة إلى تصاعد المد السلفي –الإسلام السياسي المتحفظ على مفهوم الديمقراطية وحقوق الفرد والمجتمع والمرأة، يشير الرميحي إلى حالة جوع مرضي للديمقراطية، الكل يطالب بها،، والكل يحكم بها، والكثيرون يقمعون تحت رايتها، لكن لا احد يدري أين هي، وماذا هي، بينما يذكر السيد غليون إن الديمقراطية إذا لم تكن صالحة لإزالة التخلف والجهل والمرض ولبناء الأمة والدولة وطرد الإسرائيليين من الأراضي العربية المحتلة فهي لاقيمة لها ولاتهمنا.

0التجربة العربية الأخيرة في بعض الدول المتحررة من الأنظمة المستبدة (العراق-مصر-ليبيا-اليمن –تونس، وقد تلحق بها سوريا)، أظهرت صورة المجتمعات  العربية القابعة تحت ركام الموروثات التراثية القبلية والعشائرية والدينية (المتسلطة والمتخلفة)، وفضحت زيف بعض النخب الثقافية والسياسية  المتذبذبة الولاء والانتماء والهدف والتوجه،

البعض ارتضى أن يعود إلى الاصطفافات القديمة تحت ستار وظل الحاكم الجديد (الفئة أو الحزب أو الجماعة والكتلة)، فما يحصل في العراق منذ عام 2003 من عمليات نهب منظم لثروات الشعب، واستعادة المكانة السياسية اجتماعيا عبر طريق القبائل والعشائر المقحمة في الدولة، وهما شرين لا يمكن لأي دولة في العالم أن ينتظم قرارها ويتحد مسارها، وتسير عجلة التنمية والتطور والازدهار فيها، بهذه العقبات المتناقضة لحكم القانون والدستور والقضاء المستقل،

فالأمم المتقدمة والمتحضرة هي من تستطيع أن تتخلص من الحسابات الاثنية والقبلية والفئوية في مقابل بناء دولة النظام والقانون، أمامنا تاريخ طويل من تجارب الشعوب والأمم التي مرت ودخلت وتجاوزت تلك العقبات الخطيرة، بينما لنزوات سياسية لمن يسمون أنفسهم بالقيادات السياسية (المجهولة للجماهير) أرادت إن تصنع لها ديمقراطية مقولبة وفقا لمقاساتها ورغباتها

(بعد إن اتضح لها استحالة الفوز بمقاعد البرلمان والحكومة في انتخابات عملية منطقية نزيه لدوائر انتخابية متعددة وقوانين تشريعية داعمة لها)،

الشعوب العربية تعاني في الأصل من أزمة التعريفات والتأويلات الكثيرة لمعظم المدارس والمذاهب والتوجهات الإسلامية السياسية المتداخلة مع نظام الدولة المدنية(دولة المواطنة)، حتى جاءت موجة إحياء البيئات القبلية والعشائرية من جديد، وكان الدولة كعكة للمشاركة في التوزيع لمن يحصل على أصوات عشيرته في الانتخابات

(مادامت الديمقراطية تعني أصوات الناخبين لتكن العشيرة والقبيلة حصنهم الأخير)،

إنها خيانة لتاريخ الشعوب العربية التي تخلصت في أواسط القرن الماضي من عقلية التسيد والتسلط الطبقي الإقطاعي لنخب زائفة صنعها الاستعمار قبل إن ينزوي في سراديب المؤامرات.

لقد أهدرت الشعوب العربية في العراق ومصر وليبيا واليمن (ويراد لسوريا أن تشرب من نفس الكأس) فرصة إعادة بناء دولهم، ودخلت في نفق الديمقراطية الغريب والمجهول، لكي تعود المنطقة إلى دوامة الجهل والتخلف والعادات القبلية المرفوضة إنسانيا وأخلاقيا وإسلاميا، لأنها عاجزة عن تقبل وجهات النظر الثقافية الغربية المتداخلة مع مفهوم النظام السياسي الديمقراطي

(مفاهيم الحريات الشخصية والعامة الشبه المطلقة،  ومبادئ التداول السلمي للسلطة، واستقلالية القضاء، وإبعاد البرلمان أو المجالس النيابية عن لعبة سرقة الثروات وحماية المفسدين)، بينما نحن نرى حتى مجالس المحافظات المحلية فشلت في الحد من ظاهرة المحسوبيات وحماية المفسدين وتورط بعض أعضائها بمشاريع شخصية مشكوك بسلامة الإحالة وكفاءة التنفيذ

(بل ذهبت النخب السياسية العراقية ابعد من ذلك عندما أصدرت قانون للعفو العام عن المفسدين ممن سرق المليارات من المال العام وتستعد لصياغة تشريعات أخرى للعفو عن مزوري الشهادات الخ.)

الحلول قد تكون صعبة لأمة عرف تاريخها القبلي بالكثير من الأزمات الاجتماعية، فهي لاتتورع عن تغليب لغة الجاهلية الأولى على لغة العقل والدين والأخلاق في بعض خلافاتها المحلية، فكيف يمكن للشعب إن يثق بدورها في بناء دولة القبائل الديمقراطية، صحيح إن الأنظمة المستبدة هي من تعكز في فترات معينة على بيئتها العشائرية، لكنها في فترات أخرى كانت تضرب تلك القوى الخفية عندما تجدها تواجه سلطة النظام والقانون، ولكن إحياء القوى الاجتماعية المتدنية الثقافة والوعي وجعلها شريك سياسي مهم في أي عملية سياسية، يعد أمرا كارثيا يدمر سلطات تلك الدولة ولو بشكل تدريجي بطيء، بل هي مشروع دائم للازمة والفوضى والإخلال بالنظام والأمن العام.

هذه الأمور المخيفة إضافة إلى اتساع دائرة الإسلام السياسي السلفي(وبعض الحركات الصوفية)، وتبني دول خليجية حليفة للولايات المتحدة الأمريكي (قطر والمملكة الهرمة السعودية)مسألة دعم وإسناد تلك القوى الصاعدة بالقطار الديمقراطي للسلطة، سوف تربك المشهد الثقافي والديني العربي، الذي انهارت نخبه العلمانية مع انهيار تلك الأنظمة الفاشلة، متحملة كل صور وإبعاد وأثار الماضي المؤلم، لأنها كانت حاضرة ومشاركة في ترسيخ  أنظمة الاستبداد والظلم، في الجمهوريات الثورية الدموية، حتى صار شعار الربيع العربي رفع أعلام الأنظمة الملكية الدستورية السابقة.

نحن أمام مخاطر جمة تحتاج إلى صعود طبقة وسطى قادرة على قيادة الجماهير والعملية السياسية الحديثة، وتعيد التوازن الاجتماعي  والاقتصادي وحتى السياسي، تعمل مع سياسة الأمر الواقع على تطوير الأنظمة التربوية والتعليمية والصحية لجميع أبناء المجتمع، مع توفير أنظمة الضمان الاجتماعي، وكفالة العوائل المحتاجة، وتوفير المساكن الحكومية للمحتاجين، وتوفير سبل العيش الكريم لجميع موظفي الدولة،  ودعم القطاعين العام والخاص، والامتناع عن دعم الأجهزة الأمنية في مقابل حقوق الفرد والمجتمع،

حيث لازال الشرطي العربي يحمل بندقية بالرصاص الحي،  مستعدا لإطلاق الرصاص عندما ترمي عليه حجرا أو تهتف ضد حكومته كما يعتقد، ففي الدول الغربية يتشدد القضاء مع أخطاء الأجهزة الأمنية لأنها تعتبره اعتداءا موجها للمجتمع ككل، من جهة أخرى هي لا تتردد بإنزال أقصى العقوبات بالمسيئين للموظفين الحكوميين،  أو الأملاك العامة (اليوم الشرطي مع ضابط دوريته يمكن إن يلفق أي تهمة منها الاعتداء عليه إثناء تأدية واجبه في حين يخرس التحقيق عن بحث ماهية ذلك الواجب وأسبابه)،

الديمقراطية ليست شعار مستورد نطوعه كما نريد، فهذه دول  ومؤسسات وأجهزة ومجتمعات وثروات أمانة وطنية وقومية وشرعية في أعناق من يتحملها بإخلاص، وألا عليه أن يرحم شعبه ويبتعد عن تحمل هذه المسؤولية الأخلاقية والشرعية،

ترى هل نخاف أن نسمع الأذان مرة أخرى تحت قبة البرلمان كما حدث في مجلس الشعب المصري، أم سنتجاوز مثل تلك التصرفات المحمودة سلفيا وشرعيا، لنجد طريقا أخر وفقا للنظام الالكتروني العالمي الحديث، يمكن إن  نعرف من خلاله مواقيت الصلاة، ووجهة القبلة، ونتعرف على الفتاوى الشرعية المختلفة، ويتخلص الشيعة عن لغة الحزن واللطم والبكاء  الحسيني، والجدل العقيم عن أزمة الخلافة الراشدة، والمشي ألاف الأميال للعتبات المقدسة مع وجود وسائط النقل المريحة الحديثة بحثا عن الفرج،  تحت مبدأ الأجر على قدر المشقة، تلعب به الأقاويل والأحاديث والروزخونيات المشكوك بصحتها، حتى أصبحت شعائره نقمة عليه، فتح نيران دول الجوار جميعها عليه، بما فيها حليفته في المذهب ........................

 

مهدي الصافي

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2025 الخميس 09 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم