أقلام حرة

الفتنة لن تنام بعد اليوم .. رياح التقسيم العربي / إيناس نجلاوي

إسلام فتاة مسيحية يشعل فتنة طائفية، بناء كنيسة دون ترخيص ثم هدمها من فبل السلفيين يضرم النار في محيط ماسبيرو بين الأقباط والجيش. لكن الحرب بين المسلمين والأقباط لا يمكن التعويل عليها منفردة لإحراق مصر. وبالمثل، المناوشات بين العسكر و 6ابريل لم تؤد الغرض المنشود. و لأن أعاصير التقسيم في مصر –وكل العالم العربي- آتية لا محالة وإن انعدمت الأسباب، فقد يصل الأمر إلى اختراق مباراة كرة قدم لتنفيذ المخطط الشيطاني.

رغم كل محاولات التعبئة لجعل ذكرى "ثورة" مصر الأولى (25جانفي2012) يوما لإسقاط الجيش المصري، لم تحدث المواجهة بين الثوار والعسكر. و مرت ذكرى موقعة الجمل (28جانفي) كذلك بردا وسلاما. لكن دعاة الأناركية في الداخل والخارج ينجحون دوما في إيجاد الثغرات والتغلغل في عمق النسيج المصري لتفتيته. مع حلول شهر فيفري، استضافت مدينة بورسعيد الساحلية مباراة كرة قدم بين الأهلي والمصري. انتهت المباراة بخسارة الأهلي وموت 80 فردا من مشجعيه عبر إلقاءهم من مقاعدهم أو طعنهم بالأسلحة البيضاء. الطرف المعتدي كان جالسا في الركن المخصص للمضيف (أي جمهور المصري). لم تتدخل أجهزة الأمن إطلاقا ولم تحرك أجهزة المحافظة ساكنا، بل إن بعض العناصر المكلفة بتأمين المباراة انشغلت بالتقاط صور المشجعين وهروبهم في كل الاتجاهات لتجنب الإصابة بسكاكين وسيوف المهاجمين. وبعد ساعات من انتهاء الجريمة، اكتفى المشير طنطاوي حاكم البلاد باستقبال طاقم النادي الأهلي للاطمئنان على سلامته، أما الألتراس –الذين فقدوا80 عضوا- فسيقدم لهم التعازي بعد إنهاء لجنة الحقيق لأعمالها ورفع تقريرها النهائي (الذي لن يدين –كالمعتاد- سوى الطرف الثالث الخفي الذي لا يعلمه احد، أو يعرفه الكل ولا يجرأ أحد على الإشارة إليه).

تعتبر مجزرة بورسعيد نموذجا صارخا لارتخاء مصر الأمني وتحولها شبه التام إلى دولة هلامية تعبث بها كل الأصابع وتحركها كل الأيادي؛ ماسونية أمريكية، إيرانية، سعودية، حماس وفي الداخل ما زالت سوزان مبارك طليقة تملك المال والنفوذ وتقود بقايا الحزب الوطني للانتقام من الشعب، كما أن وجوه النظام السابق مجتمعين في سجن طرة يرقبون المستجدات عبر وسائل الاتصال المتطورة التي مازالت بحوزتهم ويشترون الذمم لزعزعة البلاد. هناك أيضا المنظمات الأجنبية التمويل كالسوس ينخر العظم المصري، وشباب "الثورة" المدربون أمريكيا في بيوت المخابرات الأمريكية والمنظمات الماسونية، وكذلك الإخوان والسلفيون والليبراليون والاشتراكيون الثوريون. والمجلس الأعلى العسكري يقبض يد الجيش ويتهاون عن حماية التراب المصري كرد على تطاول شباب التحرير على رموزه. الكل لا يرى ابعد من أجندته الخاصة، ولا طرف يعبأ لخراب مصر.

كل الاحتجاجات و الأحداث ليست من قبيل الصدفة، وهي أبعد ما يكون عن العشوائية والانفعالية، بل تحدث وفق جداول زمنية محددة الوسائل والغايات. واختيار مدينة بورسعيد لتكون مسرح الجريمة الأخيرة (ولن تكون الآخرة) ليس من باب العبث أو القدر. فقناة السويس تمر من بورسعيد على البحر المتوسط إلى السويس على البحر الأحمر، وفصل بورسعيد عن مصر خطوة أولى نحو ضم سيناء والسويس للكيان الصهيوني وبالتالي السيطرة على قناة السويس البحرية. وبالتزامن مع المجزرة، دعا الحاخام شموئيل شبيرا إلى استرجاع أرض إسرائيل، التي سُلِمَتْ إلى مصر مقابل توقيع معاهدة السلام سنة 1973، و تمتد حتى مدينة العريش المصرية.

إن ما يسمى بهتانا "الربيع العربي" ما هو إلا حق أريد به باطل وإلا لما سمحت أمريكا به وتغاضت عنه، كما أن عرابه ليس سوى الصهيوني المتطرف برنارد هنري ليفي الذي ينشط في كل زاوية من الوطن العربي و يتزعم اجتماعات المعارضة (القادة الجدد) ويتوسط تظاهرات الشباب العربي المطالبة بـ"الحرية". التف حوله الشباب في ميدان التحرير، ورحبوا به في بنغازي وتونس، كما حضر إلى الجزائر وهو صديق لبرهان غليون رئيس المجلس الانتقالي السوري. وحيثما حلت اللعنة على قطر عربي، تجد بصمات و صور وفيديوهات برنارد ليفي.

يذود بعض العرب في تمجيد والدفاع عن "الربيع العربي" على اعتبار أن غايتهم القصوى هي إسقاط شخص الطاغية (و لا يرون أبعد من ذلك). أما بالنسبة للماسونية والغرب، يُعتبر هذا الزلزال في العالم العربي الوسيلة المثلى لإشعال الفتن بغية التخلص نهائيا من حدود سايكس بيكو المتقادمة وتنفيذ مشروع تقسيم –الصهيوني الآخر- برنارد لويس الذي صادق عليه الكونغرس منذ 1993، دعما لإستراتيجية الكيان الصهيوني التي نشرت أجزاء منها مجلة كيفونيم في عددها 14 والذي صدر في فيفري 1982. ونصت الوثيقة على ضرورة تفكيك أوصال مصر إلى دويلات منفصلة جغرافيا (مسلمة وقبطية ونوبية ويهودية)، تقسيم سوريا حسب بناءها العرقي إلى دول شيعية، سنية ودرزية مع ضم الجولان إلى الكيان الصهيوني إضافة إلى منطقي حوران وشمالي الأردن. وقبل مصر ولبنان وسوريا، توصي الخطة بالتعجيل بتفكيك العراق لكونه يمثل أخطر تهديد للكيان الصهيوني (نُشِر هذا التقرير سنة !!1982)

وبهذا يتضح أن المخطط يستحيل أن يتحقق دون حل مركزية الدول العربية وإسقاط أنظمة الحكم، بمعنى إسقاط الحكام العرب الذين لا يختلف عاقلين اثنين على عملاتهم للغرب وتفانيهم على مدى عقود في خدمة مصالحه. إلا أن خيانتهم للعروبة لم تشفع لهم وتم، رغم ذلك، التضحية بهم لأن مشروع القرن الجديد لا يمر إلا عبر رؤوسهم، ويتطلب "لا حكاما" أي دولا رخوة لا مركزية لا متماسكة مفتوحة الحدود وسابحة في الفوضى ومستنقعات الدماء. لذلك يُعَّدُ الاعتراف بـ"دولة" جنوب السودان خطئا فادحا وغباء سياسيا عربيا لأنه يعني قبولا ضمنيا بمخطط التقسيم الجديد الذي لن يستثني أي قطر عربي.

في مصر، يجري منذ سنة إغراق البلاد في الأناركية، حماية ظهور دعاة حل الداخلية وتكسير الجيش باسم حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، و توريط الجيش في قضايا الأمن الداخلي الشائكة بعد تفكيك أجهزة الشرطة. في وسط كل هذا الخراب، يصر طنطاوي ومجلسه العجوز على السير وفق مبدأ "إما أن أرؤسكم وإما ألا أحرسكم"، وفي المقابل لا يطالب المجتمع المدني إلا بتسليم السلطة ومدنية الدولة. في لعبة القط والفأر هذه، تركت الحدود مفتوحة لدخول السلاح وتسلل المخابرات الأجنبية. أما الإخوان فبعد اكتساحهم الانتخابات التشريعية، جندوا "الكوماندوس" الخاص بهم لحراسة مجلس الشعب (المنشأة الحيوية الوحيدة في مصر)، و انسحبوا من التحرير ونفضوا أيديهم عن الحرب الواقعة بالقرب منهم في شارع محمد محمود، أما السلفيون فأخذوا يطلقون سيارات الأمر بالمعروف (أو بالمولوتوف) في شوارع القاهرة تدعو الناس لدخول الإسلام!

وفي الجانب البعيد من مصر المنسية، يستمر خط الغاز المؤدي إلى الكيان الصهيوني في الانفجار، حتى بعد إعلان الجيش عن قتل الملثم الذي يفجر الأنبوب في كل مرة. وقد تعطي هذه الحادثة –التي تبدو بسيطة- ذريعة لأمريكا للادعاء بأن القاعدة انتقلت إلى شبه جزيرة سيناء، كما قد تتيح للكيان الصهيوني اتهام مصر بخرق اتفاقية كامب ديفيد و عرقلة إمدادات الغاز. والآن هناك أيضا بورسعيد المتهمة بالتأمر على وقتل شباب في عمر الزهور من ألتراس الأهلي. وقد أصبحت المدينة شبه معزولة بعد أن ألقوا عليها بقميص عثمان ونثروا على وطنيتها قطرات من دماء يوسف. وقبل هذا وذاك، كان إحراق المجمع العلمي بما يحتويه من خرائط تاريخية ترسم الحدود الجغرافية لمصر بدقة.

بالربط بين هذه الأحداث، نستنتج أن الهدف هو اقتطاع بورسعيد، السويس وسيناء من مصر أي امتصاص شرق الدلتا لإقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل (وفي نفس الوقت تفكيك سوريا للوصول إلى العراق) إلى الفرات، مع فصل الشمال الشرقي السعودي (الذي يشهد اضطرابات بين الفينة والأخرى) وضمه إلى الأردن لاستيعاب جميع الفلسطينيين بعد طردهم بشكل نهائي لإخفاء فلسطين من الوجود.

وهكذا تضرب الماسونية عصفورين بحجر واحد (علما أن الدين والمال وجهان لعملة واحدة عند اليهود)، فمن جهة تنفيذ وصايا التلمود بإقامة ارض الميعاد من النيل إلى الفرات، ومن الجهة الأخرى ضم شرق الدلتا وما ينتج عنه من الهيمنة على آبار البترول والمناجم والأراضي الزراعية والثروة السمكية، كما أن الاستيلاء على قناة السويس سوف يتيح للكيان الصهيوني السيطرة على حركة الملاحة العالمية والتحكم في حركة السفن القادمة من دول المتوسط وأوروبا وأمريكا وصولا إلى آسيا. وبالتالي حرمان مصر من إيرادات القناة الضخمة وافتكاك موقعها الاستراتيجي. إنه حرب ديانات و تنافس حضارات واستعراض قوة عسكرية غاشمة وصراع اقتصادي شرس يتخفى خلف دعاوي التغيير والديمقراطية.

هاهو "اللهو الخفي" والطرف الثالث يعلن عن نفسه، يكشف أوراقه وخطة لعبه جهارا نهارا، ولا يخشى شيئا إيقانا منه أن العرب شعب لا يقرأ و إذا قرأ لا يفهم وإذا فهم فلا يتحرك.

يَدّعِي العرب أنهم تحركوا طواعية لإقامة ربيعهم، فهل سيتحركون هذه المرة للوقوف في وجه خطط التقسيم أم أن الرياح عاتية و لا قدرة لشعب لا يقرأ ولا يفهم على مواجهتها؟

 

بقلم: إيناس نجلاوي – خنشلة (أستاذة جامعية- جامعة تبسة)

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2029 الاثنين 13 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم