أقلام حرة

ضد النسيان .. عن الإصلاح والإصلاحيين / إيناس نجلاوي

ليست بها رائحة البلاغة. فغضب الأمير وأمر بحبسه في الاصطبل، فقعد محبوسا مدة شهر ثم أخرجه. وفي يوم آخر نظم الأمير قصيدة أخرى وحين هم بإنشادها، قام جحا مسرعا. فسأله الأمير: إلى أين يا جحا؟ فرد عليه: إلى الاصطبل يامولاي.

 

قبع الجزائريون لأزيد من عشرية مليئة بالمآسي والفواجع في اصطبل أمراء البزة العسكرية، وحين بدؤوا يشمون بعض أنفاس الحرية، دُعِي? أحد الأمراء السابقين لإنشاد قصيدة جديدة، فهل يصم الشعب الجزائري آذانه ليتجنب صداعا مزمنا أم يعود إلى الاصطبل مخيرا؟

لماذا تعجز الجزائر عن تبني إستراتيجية واضحة المعالم ومحددة الأهداف لا تهتز لوقع زلزال ضرب القاهرة أو تونس؟ إن الإصلاحات أو بالأحرى البريكولاج الآني الشيزوفريني الـذي تفرضه تقلبات إقليمية مفاجئة قد يكون أشد ضررا من حالة الركود السياسي، لأنه لا ينبع من رغبة صادقة في الإصلاح وإنما هو مجرد مهدئ لحظي للحد من انفلات الشارع. لقد سبق (في العدد 961 للشروق العربي الأسبوعي) أن انتقدت رفع حالة الطوارئ وهذا الخلل الواضح بين تخوفات الحاكم وتطلعات المحكوم والتوزيع الغير متكافئ للغلة بين السلطة والشعب الجزائري. ينتفض المواطنون على غلاء أسعار المواد التموينية فيقرر سيادته إلغاء قانون الطوارئ، ويُضْرِبُ المعلمون فيُكممون أفواههم بزيادات في الأجور ودفع للمستحقات المتأخرة في مقابل المحافظة على رأس بن بوزيد واستمرار احتكاره لقطاع التربية والتعليم. لا أدري لِم? تنتابني الرغبة في عقد مقاربة مع سوريا؛ يُطلق بشار شبيحته ومليشيا حزب "الله" وقوات الحرس الإيراني لتقتيل واختطاف المواطنين بينما يعلن من قصر اللاذقية عن انتداب لجنة لإجراء مشاورات بخصوص تعديلات دستورية محتملة وإصلاحات سياسية مستقبلية!!!

تمخضت الحنكة السياسية الجزائرية دهرا لتلد هيئة بن صالح؛ تلك الشخصية الهادئة لدرجة البرود المترئسة لبرلمانات بني oui oui. لكن وفق أي مقياس يتم اختيار أعضاء لجنة مشاورات بن صالح، وعلى أي أساس يتم توصيف الخارجين من المتحف والضالعين في مأساة الجزائر بـ"الشخصيات الوطنية"؟ بأي منطق يتحول،مثلا، متزعم الكل الأمني في 92 إلى أبرز وجوه هيئة المشاورات للإصلاحات السياسية في 2011؟ لماذا ننسى؟ إن الفيروس الـذي يتهدد بقاء الدولة الجزائرية هو آفة النسيان. نحن –كباقي الشعوب العربية- نمتاز بـذاكرة السمك قصيرة الأمد التي لا تحفظ المعلومات والأحداث لأزيد من دقائق معدودات لترمي بها بعد ذلك إلى غياهب النسيان.  

في92، صوّر لنا نزار أنه ق?بِل? دعوة الاستئصاليين لتسلم زمام الأمور من اجل الحفاظ على دولة القانون، واليوم بعد مضي 20سنة يُرْجِعُ نزار قبوله دعوة بن صالح لتقديم المقترحات الإصلاحية على اعتبار "أن ??ه الإصلاحات تشكل إجراءا ضروريا من اجل إقامة دولة القانون"!!!

هل معنى هـذا أن حيوات الـ150000 قتيل العشرية الهمجية و آلاف المفقودين ضاعت سدى؟ لقد قيل أن الموت وخراب الاقتصاد ثمن توجب دفعه لأجل استئصال الإرهاب وإقامة دولة القانون التي اكتشفنا أن قائمتها لم تقم بعد حسب كلام عضو المجلس الأعلى للدولة سابقا. يُخيّل لي أن ظهور دولة القانون تلك أشد تعقيدا و أبعد من ظهور المهدي المنتظر!

هل هو اعتراف ضمني من الجنرال المتقاعد بخسارة رهان92 وفشل الفصيل ا?ستئصالي في تحقيق هدفه المنشود "بتكريس الجزائر بصفتها دولة قانون" حين كانت الفرصة مواتية ومتاحة لهم؟

يواصل الجنرال "إذا كان الأمر كـذلك وفشلت تطلعاتنا لحرية أوسع وحكم أفضل (...) لا يعني بأي شكل من الأشكال إخفاقا لمن يناضل من اجل تحقيقهما أو على الأقل يؤمن بهما، بل العكس هو الصحيح"!!!

هل تحتمل الجزائر مزيدا من التجارب الفاشلة؟ وكم من عقود أخرى علينا تضييعها في التطلع لتحقيق الحلم الذي ضحى في سبيله أجدادنا بأرواحهم في54، ثم الاكتفاء والاقتناع بشرف المحاولة؟ هل مصير الأجيال الجديدة أن تكون -كأسلافها- فئران تجارب لإصلاحات يقودها ديناصورات تجاوزهم الزمن وأفلتوا من السؤال والحساب. بشأن المحاسبة، ألم تلاحظوا بأنه وبمجرد رضوخ البشير لتفتيت السودان، لم ي?عُدْ مطلوبا للمثول أمام محكمة العدل الدولية وسقطت عنه تهم جرائم ضد الإنسانية التي لاحقته لأعوام؟!!  أحقد على البترول الجزائري الـذي ي?حُولُ دون وصولنا إلى محكمة لاهاي.

وبالنسبة لـ"لزوم احترام حرية التعبير لكل مظاهرة سلمية تجري في أية منطقة من الجزائر بما في ذلك العاصمة"، لم يُجِب اللواء عن سبب عدم احترام حرية الشعب في التعبير عن الفاقة والفساد السياسي والدمار الاقتصادي مقابل ظهور 6000ملياردير واستئثارهم بخزائن البلاد؛ لماذا لم تسمح الدولة للشباب بالتظاهر إبان 5أكتوبر88 وأطلقت القوات الخاصة لتفريق المظاهرات بقتل 500جزائريا؟

أما عن الشرعية الدستورية التي "لا يجوز لأية شرعية [سواها] أن تستعمل كحجة لإثارة مسائل متعلقة بالمعتقدات أو الحريات الفردية للمواطن"، ففي ذلك أقوال...

هل كان لإنهاء وجود رجال بومدين –مع مجيء الشاذلي- علاقة بالسماح بصعود الإسلاميين إلى الساحة السياسية لملء الفراغ؟ وهل كان مقصودا السماح ببروز التيار الديني ثم شن الحرب عليه لإحداث ضجة بغية التغطية على كل الفساد والنهب والسرقات التي صاحبت عهد الشاذلي بالإضافة إلى تراكم الديون الطائل؟

اعترف نزار في برنامج لقناة فرنسية بأن النظام كان على علم منـذ1981 بخروج جماعات شبانية للتيار الإسلامي من الجزائر تحت حجة أداء العمرة والحج ثم تحويلهم من السعودية إلى أفغانستان لتلقي تدريبات عسكرية لمدة 8أشهر ثم العودة إلى الجزائر عبر السعودية. لكنه لم يفسر أسباب عدم منع السلطات الجزائرية لهكذا هجرات متتالية ومنح المجندين الاسلامويين تأشيرات الدخول إلى التراب الوطني؟

في نفس تلك الفترة (مع اشتعال خط إيران-العراق) حط مدير المخابرات الأمريكية في82-جورج بوش- الرحال في الجزائر العاصمة لإلقاء محاضرة في كلية الشرطة عن الخطر الأصولي الذي يتهدد (أو يجب أن يهدد) الجزائر في السنوات المقبلة. هل اجتمعت المخابرات الجزائرية والفرنسية والأمريكية على ضرورة تخليق وحش إسلامي في الجزائر وتوفير المناخ له ليتضخم وغض الطرف عنه إلى أن يحين موعد الحسم؟

وعِوضا عن حل جـذري للأزمة من جذورها لجأ النظام إلى رد الفعل اللحظي باللجوء إلى "الإصلاح" من خلال فتح باب تعددية غير محسوبة الأبعاد. هل كان الشعب المتضور جوعا الحانق على خيانة ثورته بحاجة إلى إقرار مبدأ التعددية السياسية والإعلامية كبديل عن التوزيع العادل للثروات؟

ثم يكتشف النظام (أو يكشف الشعب) في جانفي92 "بأن المبادرات المتخذة ليس بإمكانها ضمان السلم والوفاق بين المواطنين في الوقت الراهن" (مقتطف من خطاب استقالة الرئيس). كان الشاذلي الشماعة التي عُلقت عليها الخطايا وتمت التضحية به لإثبات عدم فعالية دستور89 الذي نص "على ضرورة الاحتكام إلى صناديق الاقتراع كوسيلة محايدة لمعرفة حجم القوى السياسية في الإطار الديمقراطي" وتحديد مهمة الجيش الجزائري "في صون الاستقلال والدفاع عن السيادة".

بدا الأمر وكأنهم صدّروا الشاذلي بن جديد لتنفيـذ حل خاطئ للأزمة (الاقتصادية والسياسية والتاريخية)، وجلسوا يتفرجون على تبعات الفشل وحين بلغت الذروة كتبوا استقالة الشاذلي و أقصوه من اللعبة ليواجهوا لأول مرة الفيس وجها لوجه...

لا أدري إن كان الخلل يكمن في رأسي، ولكني ما أزال عاجزة عن استيعاب وصفة الجنرال للديمقراطية وحديثه عن الآليات الخمس "التي لو طبقت في دستور89 لما علقت الدولة المسار الانتخابي" وتتمثل في "الطابع الجمهوري والديمقراطي للدولة، والتداول السلمي على السلطة، وحماية حقوق المعارضة، والشرعية الدستورية، وحرية التعبير"! لكن في واقع الحال، كرس انقلاب 92 للطابع العسكري (الذي بدأ غداة انقلاب بومدين) للدولة و وضع حدا للتداول على السلطة و وأد المعارضة ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. و كل هـذا استمد شرعيته من خطر الإرهاب و واجب القضاء عليه.

يا حضرة الجنرال، جيلنا لا يؤمن بجدوى المبادرات التي تُحتِمها التغيرات الخارجية، و لا يرجو أي نتائج ايجابية منها. جيلنا لا يريد سوى الحقيقة والعدالة إكراما لشهداء54 وضحايا92. جيلنا لا يرغب إلا في محاسبة من أوصلوا البلاد إلى شفا حفرة من النار حتى نتمكن بعد ذلك من طي صفحة الماضي المشئوم والتطلع نحو المستقبل دون عقدة ذنب أو خوف... نحن لا نريد سماع قصائد الالتفاف بعد الآن... الجزائر تستحق أن تحصل على حقيقتها وعدالتها...

 

 

   بقلم: إيناس نجلاوي – خنشلة

  أستا?ة جامعية بجامعة تبسة- الجزائر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2036 الأثنين 20 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم