أقلام حرة

النووي الخليجي / جمال الهنداوي

التي تحلى بها رئيس الوزراء الصيني الراحل شوان لاي وهو يكابد محاولة اقناع الشاب الليبي المتقد بالحماسة والشعارات الثورية ان امتلاك السلاح النووي يحتاج الى وجود خبرات صناعية ضخمة ودرجة عالية من التطور التكنولوجي اعلى قليلا من مهارة صياغة الخطابات والهتافات والهاب الشارع بالشعارات القومية..فيبدو ان اربعة عقود من النضج ليست كافية للبعض لكي يفهم ان هناك اشياء لا تشترى..وان اكثر من عقدين من الحروب والحصار التي سحقت العراق بسبب تصريحات طائشة تحت ضغط الانتشاء من تزاحم وسائل الاعلام ليست درسا مناسبا للتحسب من التفوه بما لا يمكن الوفاء به..

تتوالى التقارير الغربية التي تشير الى وجود تفكير جدي تبديه دول مجلس التعاون الخليجي لشراء أسلحة نووية بسبب الأوضاع المتوترة في الشرق الأوسط ,والقلق الخليجي-الاصح السعودي-من تداعيات البرنامج النووي الإيراني والازمة الناشبة عنه والتي وجدت دول الخليج نفسها محشورة من جرائه وسط تصادم ارادات مرشحة فيه لدفع الثمن الاغلى والاكثر كلفة ودموية.. الجديد والمفجأ-بل المفجع- في الامر ان التقارير هذه المرة لا تأتي من مصادر المخابرات الاسرائيلية مثلما هو الامر في الكثير من المناسبات السابقة ولكنها نتيجة تصريحات مباشرة ومتكررة لكبار رجالات الحكم السعودي,من رفض الكشف عن نفسه منهم او من اجهر,ودون ان يعقبها النفي المعتاد في مثل هذه الظروف..لتكون هذه التصريحات آخر ردود افعال المتوالية التي تصدر روتينيا من دول الخليج كموسيقى تصويرية لمشهد سياسي وأمني مأزوم تتصاعد وتخفت على وقع النزاع الغربي مع طموحات ايران النووية وان كان يجب الاقرار بان الايقاع المستخدم كان اكثر صخبا هذه المرة..

فرغم تعدد المواقف التي مثلت الاستجابة الخليجية لتصاعد القلق من البرنامج النووي الايراني ومع تباينها ما بين المعلن والمضمر ولكنها تشترك جميعها بافتقارها الى الرؤية الستراتيجية المبنية على قراءة واعية ومعمقة لتداعيات الازمة وانعكاساتها على دول وشعوب المنطقة واعتمادها على تقنيات ادامة التثوير الاعلامي والدفع تجاه حافة هاوية زائفة لا تتعدى عناوين الاخبار واشرطة الفضائيات الرسمية..

فبعد ان تقاسمت شركات السلاح مع المواطن الخليجي رغيف خبزه وخزائن ارضه من اجل بناء المنظومة العسكرية الابهظ في العالم..وبعد ارتهان اقتصاديات دول مجلس التعاون وقرارها السياسي لصالح مشاريع دول الغرب الكبرى خدمة لادامة التعاون التسليحي..تأتي التقارير لتؤكد بان الحل كان من البداية مقدرا له ان يأتي من الشرق ولا يحتاج الا الى استعادة ذكريات علاقة صداقة قديمة ودفتر صكوك سخي..

مثل هذه التصريحات تصطدم مباشرة بسؤال حتمي هو عن الجهة التي من الممكن لها ان تبيع الرؤوس النووية الى الغير..وكم ستكون كلفتها,ماديا وعلى الصعيد السياسي والامني..وما الذي يدفع دولة مثل ايران لاستنزاف رصيدها الاقتصادي والسياسي وتغامر بالمزيد من العزلة والعقوبات الدولية المنهكة في مغامرة غير مكتملة الفصول تنذر خواتيمها باحتمال الدخول في مواجهة مباشرة مع الدول الكبرى ان كانت الامور لا تحتاج الا الى شطارة التجار في المساومة ..وان كانت المملكة تعتمد على دالة لها وايادٍ بيضاء على المشروع النووي الباكستاني قد يكون من المحفزات التي من الممكن ان تدفع اسلام آباد لتسليمها بعض مخزونها النووي..فان القيادة الايرانية قد تجد بالـتأكيد بعض ما ادخرته تحت الوسادة مما يمكن ان يغري كوريا الشمالية بنفس الفعل ان لم يكن اكثر..

كما انه ليس من الحكمة تجاهل موقف الدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة الامريكية من فكرة وجود السلاح النووي على مرمى البصر من قواتها المنتشرة في المنطقة والتغاضي عن امكانية وقوعها في ايدي نظام متشدد غير مأمون الجانب قد يسيطر على الحكم في المملكة..خصوصا وان الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي واستراليا سبق لها عارضت توقيع السعودية لـ"بروتوكول الكميات الصغيرة"مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي يسمح بإعفاء الدول من شرط إبلاغ الوكالة الدولية للطاقة الذرية بامتلاكها كميات صغيرة من اليورانيوم الطبيعي مما يشير ان حظوة المملكة قد يكون سقفها اقل كثيرا من التفكير بحيازة او تطوير برنامج نووي للاغراض العسكرية..

ان من الاهمية بمكان الوعي بان الامور لا تساس بهذه الطريقة في تلك المنطقة الشائكة والمعتمة من العلاقات الدولية..كما انه من الصعب تقبل ما كان يعزوه المسؤولون السعوديون الى"الاكاذيب التي يروجها اللوبي الصهيوني"على انه واجب تحتمه جهود " حماية شعوب وبلدان منطقة الشرق الأوسط"..وان من يريد القيام بمثل هذه الخطوة عليه توقع عزلة دولية محتملة وامكانية مواجهة عقوبات وتوتر في العلاقات مع القوى الكبرى وليس ان يقابل بالتهليل والعرضة ورقصة السيف على ايقاع عناوين الصحف الرسمية..كما ان مثل هذه التصريحات تعد مخالفة صريحة لتوقيع المملكة على معاهدة منع الانتشار النووي والعديد من الاتفاقيات الإضافية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ..وهذا ما قد يعقد الموقف مع المجتمع الدولي غير المهتم بكمية الفتاوى والادلة العقلية والنقلية التي قد يستند عليها صانع القرار الخليجي..

ان على السعودية ومن خلفها دول مجلس التعاون الخليجي البدء بتنقية علاقاتها البينية بمسؤولية وشفافية وحل مشاكلها المدثرة بستار كثيف من التعتيم والانفتاح على شعوبها وتقنين المشاركة الشعبية في القرار واستباق الربيع العربي بالاصلاحات السياسية مستفيدة من الهدوء النسبي في معظم البلدان الخليجية لترصين الجبهات الداخلية وتقوية فرصها التفاوضية مع المجتمع الدولي لاشراكها في المفاوضات النووية لتثبيت وجهات نظرها وهواجسها وعدم ترك الامور بين الغرب وايران والاكتفاء بدبج المقالات البليغة وابتكار الغريب والبديع من الادعية التي تستنزل بها اللعنات على الفرس المجوس والغرب الكافر..اما التعامل مع الموقف من خلال اضافة بضعة اصفار الى ارقام صفقات السلاح التقليدي للانتقال الى المستوى الاعلى والمحرم فانه لا يعد الا ضربا من العبث..والنوع المؤذي منه..

لا اوهام لدينا في ان الامور لن تحل بهذه الطريقة..وانه هناك المزيد من اموال وثروات الشعب الخليجي في طريقها الى جيوب السماسرة والمسؤولين الغربيين وباعة الاحلام..وستبقى عصبة العوائل الحاكمة في الخليج تدفع عنها غائلة الغد المجهول بالمزيد من التغييب الشعبي والرشى المغلفة بوعود الامن الزائف..فرحم الله شاعرنا الكبير امل دنقل حين يقول..هي اشياء لا تشترى

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2044 الثلاثاء 28 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم