أقلام حرة

الاضطهاد الديمقراطي .. الاحتجاج الشعبي على الموازنة / مهدي الصافي

ومحاصرتهم بقرارات تمس جوهر ثقافة وعقائد المجتمع الإسلامي الصغير المتعايش سلميا مع بقية أفراد المجتمع الأم، والأقليات المختلفة ، والملتزم نسبيا بقرارات ونظام وقيم هذه الدول، فقضية البرقع ومنعه من المدارس، ثم منع رفع مآذن جوامع المسلمين، والحديث عن غطاء الوجه الخ.

هذه المنغصات الديمقراطية للمجتمعات العلمانية بدأت تثير بعض علماء الاجتماع وفلاسفة الأدب والثقافة والفكر والعلوم الإنسانية، حول طبيعة العلاقة (العنصرية) الغريبة بين نزعة هذه القرارات (الكنسية) وبين طبيعة النظام العلماني، الذي يفصل الدين تماما عن السياسة، بل ويحرم التدخل في الشؤون الدينية والثقافية وحتى الاجتماعية (وفقا لمبدأ حرية المجتمع المطلقة).

من هنا نستنتج إن الاضطهاد يمكن إن يترافق مع النظم الديمقراطية أسوة ببقية الأنظمة الشمولية المستبدة، ليس على طريقة فلسفة الأمور (وفقا لرؤية جامدة تقول إن تحول السلطة إلى يد مجموعة كانت تقبع تحت سلطة الاستبداد يمكن إن تتحول إلى سلطة أكثر استبداد)،

وإنما وفقا لثقافة المجتمع وبيئته ومحيطه وثقافته الموروثة، لهذا يمكن لنا إن نشهد في طريقة حكم من سمح لنفسه إن يبيع أو يدوس على مبادئه في سبيل الظفر بكرسي في حكومة بريمر، الكثير من التصرفات والانحرافات الأخلاقية والاجتماعية وحتى الدينية، ما يحصل في العملية السياسية الجارية في العراق، بالضبط كما حصل من محاولات لنبش قبر ميشيل عفلق (احد مؤسسي حزب البعث وهو ابن بلاد الشام البعيدة عن لغة العنف العراقي وطبيعته الجافة والقاسية)، جاعلين منه شماعة شاهقة نعلق عليها كل تصرفات النظام السابق، بجلاوزته ورجال أمنه الخاص والعام، ووكلاء الأمن والمخابرات وجهاز الحزب ، الذي لم ينم يوما دون أن يبصم على تقارير كسر الرقاب،

وهكذا قائمة الانحطاط الوطني طويلة ومليئة بالجديد، من سماسرة الديمقراطية، ومقاولي المقاهي الشعبية، وبعض سياسيي دهاليز الولاءات الخارجية، وأصحاب الأقربون أولى بالمال الحرام، لنهب ثروات الشعب، أصحاب الشهادات المزورة (علما إن بعضهم حصل على وظيفته بشهادة مزورة ثم راح يبحث عن جامعة هنا أو كلية أهلية هناك حتى يمكن إن يقول بعد قانون العفو حصلت على الشهادة فمن حقي البقاء في منصبي)،

من الطبيعي إن الكلام لايشمل الجميع، وإلا لما سمعنا على سبيل المثال لا الحصر، تصريحات الزعيم الشاب النزيه مقتدى الصدر وتياره المعارض لبعض انحرافات العملية السياسية (بينما سكتت مراجع يشار إليها بالقداسة والتبجيل)، وبعض فقرات الموازنة الكارثة، هذا فضلا عن إن البنك الدولي كان له قولته الرأسمالية التدميرية في موازنتنا الوطنية!

علما أيها السادة إن رئيس أو عضو اللجنة المالية في البرلمان هو قيادي في دولة القانون، ولعبة السيارة المصفحة ليس في قيمة السيارة (لأنهم كان بإمكانهم شرائها منذ عهد بريمر لتبقى لأي عضو يأتي وإنما بتسليم المبلغ للعضو وبعدها هو يتصرف بالمبلغ).

المهم في الأمر هو احتجاج طلبة الجامعات والمعاهد العراقية في بغداد، الذين بدؤ اليوم بفتح صفحة جديدة في حركتهم الطلابية المعول عليها كثيرا، من اجل بناء مستقبل أفضل لهم ولمن يأتي بعدهم،

وإلا ما لذي سيأخذونه من جيل اشترك مع البعث والحركات اليسارية والقومية في تحويل بلادنا إلى مستودع للتجارب الدولية، جيل لم تعد لديه طموحات مستقبلية أو أولويات وطنية،

بل هو يبحث عن المزيد من الطرق والأبواب التي يغرف منها له ولأولاده (البعض منهم في الخارج) تبقيه بعيدا عن شبح الفقر لأجيال، كيف لنا أن نقبل بموازنة للبذخ والصرف الهائل للمنافع الشخصية والاجتماعية والكمالية، ومشاريع وهمية لن تغير من ألوان مدننا الكالحة، والعالم كله يئن من الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة ، التي عمت كل أرجاء المعمورة.

هذا الاضطهاد له فوائد وايجابيات بقدر سلبياته المؤذية، فهو يعرف المجتمع بكوامن وخفايا وأسرار الخلل الاجتماعي والسياسي، ويدفع تدريجيا لولادة أجيال أخرى تعرف معنى قيمة الوطن والمواطن، تفهم إن عملية الاستلاب الذهني والفكري، وسلاسل الحجج الشرعية الخبيثة، التي يعمل بها وعاظ الشيطان، لن تدوم طويلا، ولها حدود معينة ثم ينقلب الإشباع الروحي الزائف إلى رفض شامل، لسياسة البدع والكذب والتضليل الديني والسياسي، بعدها نفهم لماذا يقارن المفكر العالمي محمد اركون رحمه الله بين الثقافة الإسلامية المتحجرة والمتراجعة إلى الوراء، وبين عصر النهضة والتنوير والحداثة الأوربية، ليس على غرار رفض الشارع المقدس، وإنما رفض تكرار الفشل الإنساني في تسويق المقدس المصطنع، والذي يختزل عقل المجتمع ككل، ويصبه في قالب جاهز، تلبيه لمصالحه الشخصية.

ترى هل ستبني هذه الموازن العراق، أم ستحرقه مرة أخرى، وتزيد في لهيب حرارة صيفنا القادم.

 

مهدي الصافي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2045 الاربعاء 29 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم