أقلام حرة

الأماكن لا تضيق بأهلها !؟ / حميد طولست

مرتعا للبلطجية والعاطلين، سيلا من التساؤلات الحرجة، المتسم بعضها بالتسرع والتشاؤم، والبعض الآخر بقدر من الأهمية والإثارة، من قبيل: هل ضاق الميدان بثواره؟ وإن هو فعلا ضاق فلماذا يضيق بهم، وما الذي جعله يضيق؟ وهل هو نهاية لثوريته، كمنبر وميزان للروح النضالية، ومعبر حقيقي عن سمو رمزيتها التي شهد بها القاصي والداني على مستوى العالم كله؟.  أسئلة تستأهل -جميعها أو بعضها على الأقل- تفكير المتتبعين المهتمين بالأحداث المصرية، لفك ألغازها والكشف عن أسرارها والمخططات الشيطانية التي كانت وراءها، والتي لا تقل عن تلك الألاعيب والمكائد التي حيكت ضده في عهد الرئيس حسني مبارك وعلى أيدي أعوانه الفاسدين الذين مصوا دم الشعب ونهبوا ثرواته، وعلى رأسها كلها تلك التي كشف عنها الإعلامي أحمد المسلماني مقدم برنامج "الطبعة الأولى"، على قناة دريم 2، في إحدى حلقاته التي بت خلالها تسجيلا نادرا لحلقة كانت قد أذيعت قبل ثورة 25 يناير بعام كامل، كشفت فيها عن تفاصيل الخطة الشيطانية لمبارك والرامية لبيع ميدان التحرير لشركة فرنسية لبناء فندق على أرضيته،  حتى لا يجد المواطنون بعد ذلك مكانا للتجمهر والاحتجاج،"الله على راحة" خاصة وأنه (مبارك) وزبانيته، كانوا يعرفون وبدقة أن الوضع سوف ينفجر يوما ما، وأن ثورة الشعب المصري باتت قريبة جدا، وأنها لاشك منطلقة، ككل الثورات المصرية، من هذا الميدان لموقعه المتميز في وسط القاهرة وسهولة استيعابه لأعداد كبيرة تصل إلى الملايين، علاوة على سهولة نقل أحداثه من ضيقه المتوهم، إلى سعة ميادين المجتمع الفسيحة الواسعة سعة مصر، ومنه إلى باقي البقاع الأخرى والعالم في حالة حدوث مظاهرات.. إلا أنه، ورغم كل المخططات الشيطانية، والمؤامرة الجهنمية، ورغم ملشيات حبيب العادلي وعصاباته المُجهزة بأخطر وأحدث العتاد الحربي الثقيل، والتي جعلت الشعب يعيش أحط أزمنة القمع والسحل والخطف والترويع  والقتل والبلطجة -التي ظن الإنسان المتحضر أنها ممارسات انتهت مع عهود الظلم الغابرة- فإن إرادة الشعب أبت إلا أن تحبط كل تلك الدسائس والمؤامرات ليبقى الميدان شاهداً على الوطنية المصرية، ورمزا من رموز تحررها، ويستمر في تمثيل نبض ثوراتها التي لا تخرج هادرة كالبركان إلا من رحابه التي لم تضيق يوما عن استيعاب عشرات الثورات عبر تاريخه، والتي لم ولن تتبرم أبدا عن احتضان حشود الأحرار، واحتوائهم في سعة جنباته، كما حدث مع كل انتفاضات المصريين العديدة بدأً بثورة 1919، حيث تجمع الثوار به للتظاهر ضد جيوش الإنجليزي، وثورة 23 يوليو 1952 التي تم فيها تغيير أسم الميدان من "ميدان الإسماعيلية" إلى "ميدان التحرير" كناية على التحرر من قبضة أسرة محمد علي ومن الاستعمار الأنجليزي، وثورة 9 يونيو1967 الهائلة التي انطلقت منه نحو مقر إقامة عبد الناصر في منشية البكري لإثنائه عن التنحي عن منصبه بعد نكسة الهزيمة في 5 يونيو، وثورة سبتمبر 1968 أو مظاهرات الطلاب والشباب العارمة ضد الأحكام التي صدرت ضد المسؤولين عن هزيمة 1967 مطالبين بالمزيد من الحرية والديمقراطية مما دعا عبد الناصر إلى إصدار ما سمي ببيان 30 مارس 1968، (قبل وفاة)، كما شهد الميدان بعد تولي أنور السادات وبالتحديد في يناير 1972 أكبر المظاهرات الطلابية ضده، وثورة الخبز في 18 و 19 من يناير عام 1977، إلى أن نصل إلى ثورة 25 يناير عام 2011 التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث.

فكيف لميدان بهذه الحمولة الثورية الحضارية -التي لن نستطيع أن نحيط بدلالاتها وعبرها المتعددة المستمرة إلى اليوم في بؤرة الحدث، والتي كانت وسوف تكون محور دراسات مستفيضة ومتراكمة ومشرقة- أن يتوقف اليوم عن رسالته التحريرية، ويتخلى عن رمزيته النضالية، ويضيق بثواره؟ وقد تحول إلى أشهر الميادين عالميا وأكثرها ارتباطا بالثورات الشعبية المحلية التي لم يفتر لسان حال الشعب المصري الذي استعاد حيويته، واختفى الخوف من يومياته وتجاوز كل حواجز الصمت، عن ترديد مع أمير الشعراء بيته الشعري بعد تعديله:

ميداني لو شغلت بالخُلدِ عنّه * * نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي. أحداث متسارعة ومتداخلة جعلت القراءات والتحليلات تختلف حول ما يجري بمصر هذه الأيام وبالأخص بميدان التحرير وسط العاصمة القاهرة، وهل هو مخاض طبيعي من أجل ولادة نظام قادر على تلبية تطلعات الشعب ورغباته، أم أنها بوادر ثورة جديدة من أجل استرداد الثورة المسلوبة، أم أنها، كما يذهب البعض إلى القول بأنها مجرد أحداث مفتعلة يريد من يحرك خيوطها أن يعرقل الطريق نحو نجاح مقاصد الثورة انطلاقا من هذه الأمكنة التي هي، كما هو معروف، لا تضيق بأهلها، إلا إذا هم تباعدوا عن روح توافقيتها، وانحرفوا عن سلمية مقاصدها، وقست قلوبهم، وتبدلت أخلاقهم، وتعقدت أفكارهم، وتباينت أحلامهم، وتوزعت مراميهم، وتصادمت مطالبهم، وسيطرت الفردانية على تصرفاتهم، وصارت لغة الفرقة والتنافي والاستبعاد حديثهم، وتحولوا عن رمزيتها الائتلافية- رغم تأكدهم بأن تفرقهم وتمزقهم وعدم توحدهم هو هلاكهم وذهاب ريحهم- إلى صدام المليونيات وحشد الاختلافات والانشقاقات واستعراض قدرات اقتسام الميدان بين الثوار وباقي التيارات والأحزاب المتواطئة التي نقلت الصراع من دوائره الصحيحة إلى دوائر خاطئة، وحصرته بين قوى إسلامية وقوى غير إسلامية، ماقسم وحدة صف الثوار إلى مسلمين وغير مسلمين مؤمنين وكفار، ورجع بهم إلى مربع قديم وعقيم هو مربع مجتمعات الأزمنة العقدية ديار كفر وديار إيمان، بعد أن كان صراعا بين قوى الثورة ضد أعدائها المفسدين.  

وحتى لو حدث ذلك، وافتراضا، وألبس هذا الميدان -الذي غير وجه التاريخ ووجهته في المنطقة العربية والمغاربية، بما رسم بها من عز ومجد وكرامة حين بالإطاحة بالطاغية ونظامه- كل الحجب التي مزقت نسيجه تمزيقا وجردت ثورته من مبادئها وأهدافها، كما قالت "وفاء إسماعيل" في مقالة لها منشورة في جريدة "الوسط اليوم" تحت عنوان " ثورة ولبسوها حجاب" : "الثورة ألبسوها حجاب وحجبوا مفاتنها وجمالها حتى لا تفتتن بها الشعوب الأخرى كونها كانت ثورة سلمية أطاحت بمبارك الديكتاتور المستبد، وألبسوها حجاب يحجب صرخاتها بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية حتى لا يسمع صداها في بلدان أخرى مازالت ترزح تحت كبت وقمع الطغاة"- وحتى لو لم يعد يتسع لمن فيه، أو لم تعد لدى المتواجدين به الحماسة والثورية والرغبة في الاستمرار على درب الثوار بعد أن تُغير مسار الثورة وتُحكم في بوصلتها؛ فإن ثورة25  يناير التي صنعت رمزيته وخلقت للتحرير ميدانا، كما قالت الكاتبة المبدعة إكرام يوسف، قادرة على أن تصبغ الميدان وغيره من الميادين المبثوثة على رقعة البلاد، بل وكل محافظة، وكل شارع، وكل حارة، وكل منزل من منازل مصر، بنفس الرمزية والثورية،  المتزينة كلها بدماء الشهداء الشباب الأطهار، الذين أبهروا العالم كله بقوة وحيوية تضحياتهم المليونية السلمية الحضارية المفاجئة المتمسكة بحق كل المصريين، وحق الشهداء الذين سُفكت دماؤهم الغالية من أجل تحقيق تحرر مصر وشعبها من القبضة الحديدية التي أنهكت قواه في معارك جانبية طاحنة حبست أحلامه، وكبتت نواياه و عادت بثورته إلى المربع الذي كانت فيه قبل25  يناير، حيث بدأت سحابة الخوف القديمة تعود لتلقى بظلالها من جديد على مصر، لتهيئ المناخ لعودة النظام الديكتاتوري المطلق مرة أخرى، كما جاء في شهادة للإعلامي البريطاني المخضرم تيم سيباستيان التي نشرتها صحيفة الشرق الأوسط في 21/22012/، نقلا عن "نيويورك تايمز" والتي خلص فيها إلى أن الأمر في غاية الخطورة، لأن الخوف هو ما يمنح القوة للطغاة ليتدكتروا أن صح التعبير. 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2046 الخميس 01 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم