أقلام حرة

أصدقاء جمعتني بهم أصبوحة / صالح الطائي

 

بعد مرحلة التوجس والخوف من الآخر التي عشنا في أجوائها منذ أربعين خريفا بتنا نتهيب من لقاء من لا نعرفه، أو نعرفه بشكل سطحي، أو لا نعرف عنه ما يكفي لكي نثق به، وحتى من نثق به، خوفا من أن يكون مجبرا على تقصي معلوماتنا[*] فلطالما أدت طقوس التعارف الهمجي التي لوثتها سياسة الرصد والكتابة والاستدعاء لقود عشرات الأبرياء إلى عالم التغييب في المقابر الجماعية أو التخنيع حد العبودية، أو حتى الغدر بالأصدقاء.

ثم لما ذب الشعب ثوب التهيب وتكشفت الوجوه فبان صالحها من كالحها كان عمرنا قد تجاوز عهد الصداقات واللقاءات والجلسات، وكانت مشاغلنا وهمومنا وخوفنا الموروث قد قادتنا عنوة إلى تجاوز إنشاء صداقات جديدة خوف الوقوع في تجارب مريرة مثل تلك التي وقعنا بها في شبابنا فقادتنا إلى غياهب معتقلات الأمن العامة لنشهد حفلات تراقص (الكيبلات) وطقوس أفعوانية (الفلقة) وقفزات (الصعق الكهربائي) ومشاهدة عروض (العري) التي يجبر على أدائها المعتقلون استعدادا للسعات السكائر أو الحديد المحمى حد التوهج، والمناظر الأخرى التي ترسم خلف الكواليس.

وكانت هذه قاعدة العقلاء منا، لا يخالفون منهجها، ولا يحيدون عن صراطها إلا إذا ما قرأوا الآخر لدرجة (الدرخ) والحفظ عن ظهر الغيب، حيث كنا حينها نستعدي زماننا ونتحدى قواعدنا السلوكية المكتسبة قسرا للتعويض عما فاتنا من زمن جميل، زمن الألفة والصداقة، فننهك أنفسنا بالبحث عن كل صغيرة وكبيرة لأي مشروع صداقة يعرض علينا، نبحث في حيثيات وفكر ومعتقد وسلوك ومنطق وأصل وفصل الآخر إلى درجة الإنهاك، وعندما نقتنع به نخشى أن نعرض صداقتنا عليه، أما إذا لم تخنا شجاعتنا أو ما تبقى منها فنعرضها على استحياء ووجل وتهيب.

 

ومن الأشياء التي نبحث عنها ومن خلالها عن الصديق المقترح كانت الأفكار ممثلة بآرائه ورؤاه التي يطرحها في أعماله الأديبة والفكرية، فهي المعين العذب الذي أتاح لنا قراءة وجهه الثاني المضمر عملا بقاعدة (إذا أردت أن تعرف أصل إنسان فأنظر إلى أعماله) التي وضعها لنا المرحوم والدي واجبرنا على إتباعها لنسلم بجلدنا من طعنات الأصدقاء. ومن خلال الكتابة والمنتج الفكري والأدبي أتيحت لنا فرصة رؤية بعض الوجوه الأكثر صفاء ونقاء وعذوبة وجدية وواقعية بما لا يترك مجالا للشك بأي نسبة كان في أنهم أصدقاء صادقين، فنشأت بيننا وبينهم صداقات افتراضية في عالم افتراضي بعيدا عن الواقع، كانت واسطتها شبكة الانترنيت، وحدودها الفضاء المفتوح على الجغرافيات كلها، بعضهم كان بعيدا بما فيه الكفاية لنثق أن رؤيته واقعا شبه مستحيلة، والآخر كان قريبا ولكن لا فرصة للقاء به بسبب الظروف العامة التي نعيشها ويعيشها وطننا الجريح.

وإذا ما كانت أمنية اللقاء بمن هم أبعد من حدودنا تبدو غير واقعية أو مستحيلة، فإن اللقاء بمن هم أقرب إلينا ليس مستحيلا وربما لا يحتاج إلا إلى ظرف مناسب. وقد تحقق لي هذا الظرف المناسب بدون مقدمات بألطاف الله تعالى لألتقي ببعض وجوه الخير التي عرفتها عبر الشبكة عن طريق أقداس العتبة العباسية المشرفة وقسمها الفكري الذي يشرف عليه أحد وجوه الخير والثقافة الأستاذ (علي حسين الخباز) الذي استضافني مع صديقين عزيزين هما الأستاذ الكاتب السياسي (رائد السوداني) والدكتور (محمد تقي جون) لألتقي بالأستاذ المفكر (سلام كاظم فرج) ثم بالأستاذ الأديب الرائع (حمودي الكناني) لتتحول تلك الجلسة إلى أصبوحة أدبية ولا أروع، وهي وإن لم تستمر إلا ساعتين إلا أنها كشفت قلوبنا على بعضها حتى كأننا كنا نعرف بعضنا منذ عهد الطفولة أو في عالم الذر، فباح كل منا بما في مكنون قلبه، وأبدى وجهة نظره بالصديق المعروف المجهول الذي يجلس قبالته من خلال مكاشفة واقعية مباشرة شفافة وطدت بيننا أواصر الألفة والمحبة لنخرج من هذه التجربة ونحن نتحسر على عمرنا الطويل الذي انقضى من دون صداقات حميمة، أو اكتفى بعدد محدود ومحدد منها لا يشبع التطلعات ولا يغني الأمنيات.

شكرا لمُضَيّفنا الصديق الرائع الأستاذ الخباز، وشكرا لأصدقائنا الذين أحالوا دنيانا إلى فرح في زمن عز فيه الفرح وعز فيه الأصدقاء.

 

.......................

[*] حينما كنا معتقلين في مديرية الأمن العامة كان معنا شابان يافعان ألقي القبض عليهم وهما يحاولان تجاوز الحدود هربا من الظلم، ورغم التعذيب المستمر لم يعترفا بشيء إلى أن أدخل معهم مساء احد أصدقائهم القدامى، فرحبا به وأجلساه معهم، وبقوا يتحدثون إلى ساعة متأخرة، ثم في الصباح أستدعي صديقهم إلى التحقيق، وبعدها بقليل تم استدعاؤهم إلى التحقيق ولم يلبثا إلا قليلا حتى عادا يضحكان بسخرية، وحينما سألناهما عن السبب أخبرانا بأنهم وثقا بصديقهم المشترك الذي كان يحمل جهاز تسجيل وأخبراه بقصتهم وما كانا يخفيانه،وضاع كل ذلك الصمود الذي أبدياه، حيث تبين أن الأمن هم الذي دسوا لهم هذا الصديق بعد أن اجبروه على التعاون معهم تحت التهديد للإيقاع بهم، فتم لهم ما أرادوه على يد هذا الصديق المسكين

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2048السبت 03 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم