أقلام حرة

في مصر مجددا بعد خمس واربعين عاما / عبد الجبار منديل

                                        

     كانت مصر انذاك تعيش عهد عبد الناصر حيث الشعارات الرفاتة والاناشيد الحماسية التي تبشر المصريين والعرب جميعا بعهد جديد من التقدم والازدهار . وكانت القاهرة انذاك هي كعبة الكثير من الشعوب العربية والافريقية والاسيوية وكان عبد الناصر سادة هذه الكعبة . وكانت الدعاية تبشر الناس صباحا مساءا بكل مفردات النصر والانتصار وبان الخير العميم قادم وان السعادة على الابواب وكان الناس يرقصون فرحين بانتظار ذلك .

كانت الدعاية الرسمية للدولة المصرية حين تركز على الطابع التفاؤلي لكل اوجه الحياة وتمنع اي نبرة تشاؤمية لذلك تم سجن الصحفي مصطفى امين رئيس تحرير اخبار اليوم لمدة غير محدودة لانه روي نكتة تسخر من بعض اوجه الحياة المصرية كما تم نفي اخيه علي امين .

وكانت النكتة وهي في فترة بناء السد العالي تقول بان المهندسين الروس كانو يرسون دعائم السد وبان المهندسين السويديين كانوا يضعون المكائن والمهندسين الفرنسيين كانو ينصبون التوربينات اما الجماهير المصرية فكانت تقف خارج السد وترقص وتغني (اختار اللي بنينا واحنا حا نبني السد العالي )

الان ماذا راينا بعد خمس واربعين سنة ؟ في عام 1965 كانت الشوارع هادئة والارض فارغة وكنا نركب وسائط النقل العام بحرية اما الان فانك عندما تسير بالشارع فكانت تخوض في معمان مظاهرة صاخبة ليس لها اول وليس لها اخر كما انه ليس لها اتجاه فهي تسير في كل الاتجاهات وهذا ما كان الخبراء يحذرون منه الدول النامية قبل عدة عقود حول اخطار الانفجار السكاني اصوات ضجيج السيارات منبهاتها بشكل موسيقى نشاز تصم الاذان . دخان عوادم السيارات يختلط مع الغبار والرمل ليكون غمامة متحركة تلاحقك اينما سرت .

من الواضح انه تم خلال العقود المنصرمة الكثير مكن الاعمار والبناء ولكن ذلك لم يكن ليكفي المدينة التي لم تستطع استيعاب الهجرة السكانية المتزايدة التي ملاتها للبشريين مليون نسمة فتتزاحم الاسكان العشوائي مع العمارات الحديثة لذلك ترى مياه المجاري رسط احياء فقيرة فقرا مدقعا مجاورة لاحياء حديثة جدا ومتزاحمة لها .

تناقضات هائلة على كل خطوة . اسواق عالمية حديثة تزخر بالماركات العالية المشهورة زبجوارها اكوام من الازبال والقمامة المتناثرة . احدث موديلات السيارت بجانب هياكل متداعية لعربات تجرها الحمير . الصحف المصرية هي الاخرى ملأى بالتناقضات . ففي الوقت الذي تجد المقالات الطويلة باقلام رجال الدين التي تحذر من الغرب الكافر تجد مقالات الليبراليين التي تحذر من الموجة الدينية المتصاعدة . وفي الشارع تجد النساء المنقبات او المقنعات اللواتي يرتدين العباءة الخليجية او السعودية بجانب الفتيات اللواتي يلبسن بنطلونات جينز والكابوي .

في سنوات الستينات كان الجنيه المصري يعادل دولار ونصف ولكن الان الدولار يعادل ستة جنيهات . كان الدينار العراقي يعادل ثلاث دولارات مما يساوي جنيهين . الان الدينار العراقي لا سعر له . في تلك السنين كانت هناك محلات مصرية عريقة مثل عمر افندي وشيكو ريل بجانب المحلات البلدية الان توجد اسواق تجارية عملاقة ومولات اجنبية بجانب الاسواق الاستثمارية المصرية والخليجية بجانب المحلات الشعبية .

وتحولت شوارع القاهرة الى سوق كبيرة بين كل مطعم ومطعم مطعم اخر وبين كل مقهى ومقهى مقهى اخر ؟ الاسماع فيه اصوات الاراكيل وطرقات قطع الدومينو او الطاولي .

كل فئات الشعب ترفع اصواتها في كل مكان . في الساحات وفي الشوارع وفي المترو الشباب يرفعون اصواتهم ضد العسكر داعين اياهم بالمغادرة الى ثكناتهم ورجال الدين ترتفع اصواتهم ضد الشباب داعين اياهم الى ترك الساحات وترك الناس تمارس اعمالها والعسكر يدعون الجميع الى الهدوء وانتظار الانتخابات . ولكن لا احد يسمع . الجميع لا يسمع الجميع .

في الستينات كان الجميع يصفق ويغني لعبد الناصر والجيش ولكن الان الجميع في حالة غضب . كل واحد غاضب على كل واحد وكل فئة غاضبة على كل فئة . لا احد راض لا عن حاله زلا عن حال الاخرين ولا عن حال البلد . يتوقعون ان الصراخ والشتائم سوف تحل مشاكل البلد لذلك فان الجميع يصرخون معا ويشتمون معا وما على السائح الا ان يستمع

في المثقف اليوم