أقلام حرة

طريق (الهروب إلى جهنم) * / أحمد النوّاس

فرصة لتتمعن في طريقتين من الشمولية وأن تقارن مقارنة واقعية بين منهجين فرديين وجنونين بينهما مشتركات منها أنهما أقحما أنفيهما في كل شيء حتى في الانتاج الأدبي من موقع السلطة،،

وكان لا بد أن أقرأ (القرية القرية،، الأرض الأرض وانتحار رائد الفضاء) وهي مجموعة قصصية صدرت في ليبيا (للمفكر الأممي) معمر القذافي .

قرأت، تأمّلت،، وكان هناك سؤال : هل كتب القذافي هذا النص حرفيا أم أنه  (أشرف) على كتابته وحدد مساراته لأحد كتّاب البلاط (الخيمة) ثم وضع اسمه ليكون صاحب الفكرة وليس مؤلف التفاصيل .

والحقيقة أنني كنت أحاول أن أفهم كيف يفكر هذا المخلوق،، الذي يجمع بين الاضطراب والأنانية والغرور والتعالي رغم ما حاول أن يوحيه عبر هذا الكتاب من تواضع مُدّعى .

وأيا كان الوصف المناسب للمجموعة وكاتبها إلا أنها نجحت بعد مقتل القذافي بالصورة البشعة التي لا حاجة لإعادة توصيفها، نجحت في أن تبعث أمامي علامة تعجّب كبيرة بل أنني أرى أن قيمتها الحقيقية بدأت بعد موت كاتبها الافتراضي .

فهي تستدعي وقفة متأملة بل وتذهل القاريء الان،، وكيف لا وأنت تقرأ في قصة (الفرار الى جهنم) وتأمل العنوان،، تقرأ (ما أقسى البشر حين يطغون جماعيا،، ياله من سيل عرم لا يرحم من أمامه !! فلا يسمع صراخه، ولا يمد له يده حين يستجديه وهو يستغيث ...، بل يدفعه أمامه في غير اكتراث).

أي نبوءة هذه يا ملك ملوك أفريقيا،، أيعقل أن يكتب طاغية مشهد نهايته بهذه الدقة التفصيلية؟

أي شعرية حزينة مكتومة الدفق،، انتظرت تحقق النبوءة لتتحرر من سطورها؟

أكان القذافي يستغيث قبل أن يلتقي ثوار مصراته الغاضبين بسنين طوال؟

هل كان ولد القاتل حين كتب القتيل استغاثته؟

أم أن القذافي هو القاتل والقتيل؟

أي بكاء هذا على النفس،،؟ أكان يبكي نفسه؟

ترى كم مارس هو ذات السيناريو مع تغيير المواقع بين القاتل والضحية؟

القذافي كان غريبا عن محيطه أو قل عن العالم ولن تجانب صوابا ووحيدا لذلك كان يحب أن ينغمس في جموع الهاتفين (لفاتحه) العظيم وكأنه كان يبحث عن طمانينه مفقودة طمأنينة يحسها بين هذه الجموع أو في هتافاتها (الفاتح .. الفاتح) هل كان يصدق تلك الكوميديا اللعينة؟

أم كان حبيس وحدته؟ (فبماذا أطمع أنا البدوي الفقير، التائه في مدينة عصرية مجنونة، أهلها ينهشوني كلـّما وجدوني)..(القصة) أكانت الهتافات تنهشه أم أنه كان يخاف أن ينهش على الطريقة التي انتهى عليها ..؟

قد نستطيع ان نفهم تعالي القذافي على قيم المدينة على أنه محاولة الى ضرب الاحساس بالنقص العميق لديه استباقيا ..

اذن هو الفرار الى جهنم يا بو منيار كما يحلو له أن يطلق عليه .

فهل كانت جهنم القرية التي ولد فيها أم جهنم الاخرة أم انهما تماهتا في مشهده الأخير (حين حاول القذافي الخروج من سرت صباح يوم مقتله كان يحاول الهروب الى منطقة قريبة من قريته الأم  قرية جهنم، كانت سرت جحيما من حصار وقصف وموت يقترب)

يقول يونس ضو أحد أهم قادة حراسات القذافي ورفيقه في الأيام الأخيرة ..(أنه لم يكن مرتبكا أثناء حصار سرت وأنه كان يعيش يومه عاديّا بل أنه لم يكن يقود المعارك بل كان ابنه المعتصم من يفعل ذلك،) أي عالم هذا يعيش فيه هذا الكائن مع نفسه أي شعور مرضي يقيّد العلاقة بينه وبين ذاته التي يراها ذاتا عليا لا يريد الانفصال عن العيش في ملكوتها الوهمي، هذه علاقة فيها عشق للذات من نوع خاص جدا ً، نوع ينفصل عن الواقع ليصنع عالما بمواصفات (خضراء) على مقاس صقر أفريقيا الأوحد .. عالم خاص أو غيبوبة خاصة لم يصح منها إلاعلى تلك الصرخات الهستيرية التي أطلقها أولئك الباحثين عنه والمطاردين له حتى استنفذ أماكنه الآمنة بيتا بيتا،، وشارعا شارعا،و زنقة زنقة،،

هل خطرت سطوره النبوءة في باله قبيل الامساك به؟ أو تذكر كيف خط هو سيناريو المصير أثناء وصوله الى تلك الأيدي التي تكاثرت عليه؟

لقد اخرجوه من عالمه الذي نسجه حول نفسه لعقود .. أي مشهد أخير شنيع، أي نهاية كثيفة الصور،  نهاية محزنة حتى لأعدائه (ليبي من بنغازي كان وسيبقى من مبغضي  القذافي قال بكيت حين شاهدت نهايته)

ماذا كان يريد في تلك اللحظات؟ ما هي أعلى الطموحات؟

النجاة؟  أم الخلاص؟ الخلاص بمعنى أن يمر المشهد سريعا ولا تطول فصول النهاية فهو لا يطيق الابتعاد عن عالمه الأسطوري الذي نسجه حول ذاته المبجلة، الخلاص بسرعة من فضلكم لا يهم الى أين سيكون الفرار (فرار إلى جهنم) أو أي جحيم مجاور (حاولتم الحيلولة بيني وبين نفسي، ولكن بفراري إلى جهنم انتزعت نفسي منكم)ص 73.

 

.....................

*قرية جهنم :القرية التي ولد فيها القذافي .


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2056 الأحد 11 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم