أقلام حرة

لنخلد الشاعر الآشوري سركون بولص / سامان سوراني

والمجتمع الذي لا شعراء له‌ يتخبط على غير هدي لأنه لا لوامس له‌ تهديه في هذا الظلام الدامس المخيم على البشر. يطلق على هذا الصنف من الناس اسم الشعراء، لأنهم يشعرون و يحسون وتخفق قلوبهم وتهجس أفئدتهم، وبصيرتهم المتوقدة توحي اليهم، وقد يسبقون أعلم العلماء و أبحث الباحثين وأحنك السياسيين بصفاء ذهنم وخلاء حسهم الي الموضوع الذي لاتبد قيمته لغيرهم الا بعد حين....

لذا يبقي سيزيف العصور والشاعر الستيني من "جماعة كركوك" ، سر?ون بولص، خالدا في ذا?رة العراقيين، الذين يقدّرون أعماله الشعرية ويخلد بصورة خاصة في عقول وقلوب أهالي وسكان مدينته ال?وردستانية ?ر?وك، التي بناها أجداده العظام.

ترعرع سيد قصيدة النثر في كركوك، مدينة الاثنيات والثقافات المختلطة، لعائلة آشورية فقيرة، ?انت تس?ن محلة (تبة- الماس)، متقناً فن التعايش، مدركا نوائب الاختلاف، وحالماً بفرص التعرف على اللغة والادب. هذه‌ المدينة، التي يم?ن تسميتها بمدينة الحداثة، الهبت الشعلة الأزلية وأعطت شاعرنا وحي الشعر الذي اصبح وطنه ولم يغادره حتى اللحظة الأخيرة في حياته. يقول سر?ون عنها: "كانت ?ر?وك دائما منبعا إنسانيا متنوع اللون والشكل. وهو منبع لا ينتهي لغرابة اللغات المتبادلة بين تلك الأقوام. وكركوك بالنسبة لي هي بداية الكتابة وكانت المنبع والمكان الذي فتحت فيه عيني على مواقف الشعر."

لقد كتب عن كركوك في كل ?تبه وفي شكل خاص في ?تابه الأخير "الأول والتالي" وفيه قصيدة اسمها نهار في كركوك. وهي قصيدة تعبر بالضبط عن صورة كركوك التي ?انت تلازم شاعرنا، وهي قصيدة كتبت في أمريكا بسان فرانسيس?و.

فبسبب المامه باللغة الإن?ليزية وعيشه في مناخ التعددية اللغوية لهذه‌ المدينة، أصبح ذهنه مرنا لاستساغة آداب الأمم الأخرى والتفاعل معها، وخياله اوسع خصوبة.

رغم أنه من مدينتي، بقي معرفتي به ?معرفتي بجبران ونبيه والسياب ومطره وأدونيس ومداراته. مع وصول البعث الى الحكم عام 1968 غادر العراق الي سوريا من دون جواز سفر، ومنها غادرالي بيروت ثم الي سان فرانسيس?و، المدينة التي أحبها، و?تب عنها قبل أن يراها. كتب قصائد إنسانية رائعة على مدى زمن قارب النصف قرن. قصائد ما زالت ترفرف بيننا كالحمائم في ساحات الكنائس وعلى المآذن. فهو القائل بأن "الشاعر الحقيقي الذي يؤمن بالشعر، ولم يأت إليه عابثاً من أجل كتابة بضع قصائد عابرة ينبغي أن يكرس نفسه وحياته للشعر، وأن يعتبر نفسه ذا مهمة كبيرة في التاريخ. وأن يقدّس الكتابة، ويخلص لها من كل قلبه."

?ان سر?ون يلعن في قصائده ?ل قامع مستبد فاشستي، يعتبر الحرية فوق الشعر و لم ي?ن لديه رئيس إلا نفسه و?لمته،

احل سركون بتاريخ 22/ 10 / 2007 عن عمر ناهز الثالثة والستين "في سفينة نوح"، قرير الغربة والمنفى والوطن، نوم "الحقيقة الصلدة الوحيدة في الوجود"، حاملا في قبره "الفانوس في ليل الذئاب"، مرددا فلسفته الشهيرة:

"البدء نختاره ، لكن النهاية تختارنا، وما من طريق سوى الطريق". مات سركون بولص في المنفى الألماني، ?إبن مدينته جان دمّو، الذي مات في استراليا، ولم يعد الي مدينته كركوك التي طالما كتبها شعراً. كان يعلم أنّ البعث دمّر حميمية مدينته وتنوّعها، فكتب عن الهمجية التي نالت من أماكن أحبها وانتمى اليها. مات شاعر شعر الإنتماء الي الإنسان والتحرر من أثقال الذات نفسها، شعر الحساسية العالية والنبرة الخافة. يذهب الكل ولكنه يبقى الاسم، ه?ذا قال سركون بولص في إحدى قصائده. وأنا أقول يا سر?ون، يذهب ال?ل وشعرك يبقي خالدا، فأنت عملت الكثير من اجل نقاء الكلمة وأقمت لغة حوار عالمية ع?ست انتماءك الاصيل لشعبك وللعالم.

?ان سر?ون في المنفي لسان حال أهل ?ر?وك وشعبه الآشوري وأسبق المدر?ين للمقتضيات الزمانية والم?انية التي تحيط بهم، فإذا أراد أهل ?ر?وك أن ي?بروه‌ ويخلدوا ذ?راه فعليهم أن ينشؤا بأسمه مدرسة مختلطة يتعلم فيها الجيل القادم فن تعزيز التآخي والتعايش الحضاري لتجاوز الطابع الايديولوجي نحو الطابع الإنساني بل ال?وني و إتقان لغة الإعتراف والحوار والتوسّط والتعدد والمباحثة ونبذ منطق الإصطفاء والتمييز والتقوقع والعس?رة والإنفراد والإحت?ار والصدام...

ل?نهم يا سر?ون "أضاعوك حياً وابتغوك جنازة".

وختاما لنخلد شاعرنا الإنساني سر?ون بولص، الذي أحب ?ر?وك حد العشق والهيام، بقراءة قصيدته العصماء، التي ?تبها قبل وفاته بأشهر:

"بستان الآشوري المتقاعد"

"النجوم تنطفيء فوق سقوف كركوك

وتلقي الأفلاك برماحها العمياء

الى آبار النفط المشتعلة في الهواء

الى كلب ينبح في الليل مقيدا الى المزراب حزنا؟

أو رعبا أو ندما وضفادع تجثم على أعراشها الآسنة

في بستان مهجور عندما

تشق حجاب الليل صرخة مقهورة إنه الآشوري

المتقاعد يقلع ضرسه

المنخور بخيط مشمع يربطه الى أكرة الباب

ثم يرفس الباب بكل قواه مترنحا

وهو يئن مغمض العينين الى الوراء"

 

د. سامان سوراني 2008

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2057 الأثنين 12 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم