أقلام حرة
لماذا تم تهميش الدين في الحياة؟! / زكي السراج
وهذه الأركان الأربعة هي: الدين، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وهذه الأربعة في المنظار البشري كأنه لا تمايز بينها، بل تمايزها وقيادة احدها للأخريات تقرره حركة الواقع وإرادة الناس ولذا يرى المتابع للتاريخ البشري أن هناك فترات تاريخية تتقدم فيها السياسة وأخرى يتقدم فيها الاقتصاد بينما الدين والمجتمع باقيان على موقعهما فالمجتمع ثالثا والدين رابعا دائما!!
على طول المسيرة التاريخية للحياة كان الدين ركناً مهمشاً يقبع في ذيل قائمة أركان الحياة، بل لعل الحال في هذا الزمان خير شاهد على أن الحضارة المادية اجتهدت اجتهادا منقطع النظير على تجميد الدين وحشره في زاوية من زوايا المجتمع التي قليلا ما يكون لها تأثير في حركة معادلة الحياة، وهي زاوية الاهتمامات الشخصية، بل اجتهدت أكثر في وصم الدين بالتخلف حتى عزف الناس عنه عزوفا خطيرا، بل صار المتمسك بالدين في هذا الزمان هو شخص يعيش على هامش الحياة.
ولعل سائل يسأل لماذا هذه الحرب التي تشنها البشرية على ركن مهم وخطير من أركان الحياة، بل لعل كل الجهود التي بذلتها البشرية من اجل تهميش هذا الركن كلها تدعو للتوقف عندها والبحث فيها لماذا؟؟!! فيتبين من الجواب أن الدين عند حضوره يكشف خواء الحياة بدونه، بل يكشف أن الأركان الأخرى بدونه لا تصنع غير هياكل منخورة تماما كما يصف الحق سبحانه بقوله {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}(المنافقون/4)، فالحضارة المادية الخالية من الدين كل عملها صناعة أجسام وتصنع عمارات وغابات من الاسمنت، ولكنها عاجزة تماما من أن تصنع إنسان بمعنى الإنسانية يمتلك روحاً نابضا بالأخلاق الكريمة.
قال تعالى{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}(غافر/4-6) ففي كل زمن تمد السماء يدها إلى هذا الركن الحياتي المهم لتعيده لموقعه الحقيقي الذي استبعد منه قسرا، تواجه هذه اليد مواجهة شرسة تبدأ من اللحظات الأولى التي يعلن المبعوث السماوي فيها عن نفسه ويدعو الناس إلى إعادة منظومة الحياة إلى وضعها الأصل الذي وضعه بها خالقها، وهذه الآيات الكريمة بينة من البينات التاريخية التي تكشف حقيقة مراد هذا التهميش للدين!!
فالذين يعملون على هذا النهج يعرفون أن حضور الدين يرغم أنوفهم على طاعة منصب من السماء تأباه أنفسهم، وهذا ما يكشف حقيقته القرآن بقول الله تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة/247) فهذا الملك الذي نصبته السماء لا يملك ـ بزعم الملأ ـ المؤهلات التي تجعله مستحقا للقيادة، وهذه المؤهلات هي عندهم ؛ السعة في المال، وهذا أهم مؤهل يراه الناس لاستحقاق القيادة أما المؤهلات التي تضعها السماء فهي مؤهلات لا ينظر لها أولئك على أنها مؤهلات تجعل من المتصف بها قادرا على القيادة الصالحة للحياة، فضلا على أن هذا المنصب من السماء له ارتباط وثيق معها وهي من تهديه سبيل النجاة والهداية، فهذا موسى(ع) يكشف عن هذه الحقيقة عندما شعر قومه وهم بمواجهة البحر ومن خلفهم جنود فرعون بالرعب الذي دفعهم للتشكيك بقدرة قائدهم على النجاة بهم فاستشرفوا الهلاك فجاءهم الجواب : {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ}(الشعراء/61-65).
فالله سبحانه جعل الدين هو الركن الأصل الذي تترشح منه الأركان الثلاثة الباقية فهي محكومة به منقادة إليه، وهذا الوضع الصالح تؤكد عليه كل الرسالات السماوية التي جاءت إلى الأرض وبه شهدت كل المراحل التاريخية التي مرت بها البشرية، فلم تتذوق البشرية على طول مسيرتها التاريخية حلاوة الصلاح إلا بوجود أولئك القادة الإلهيين الذين كشفوا للناس أن محاولات الخداع التي جعلتهم يعرضون عن الدين حتى صيروه (بئراً معطلة) وتوهموا أنهم قادرون على صنع ماء الحياة في مختبرات الحضارة المادية ليجدوا أن ما توهموه ماء حياة ما هو إلا سم زعاف راح يسافر في عروق الحياة فيفسدها واحدا تلو الآخر!!
تدبر أخي القارئ الكريم ما قاله عيسى(ع) في الكتاب المقدس: [لا يقدر خادم أن يخدم سيدين . لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر . لا تقدرون أن تخدموا الله والمال] وهذه المعادلة القائمة اليوم للأسف ؛ أما الله سبحانه وطاعته واتباع المرسل منه، أو المال وسلطته وهيمنته وطاغوتيته، فاتباع المرسل الذي زاده ربه سبحانه بسطة في العلم والجسم أو اتباع المال وطاغوتيته وسلطته هما محل الابتلاء والاختبار، قال تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة/256)، فمن أقام الدين فقد تحرى الرشد، وأما من أقام المال فقد اختار الغي ومن ثم فما يحصده من نتائج الفساد هو رهن باختياره لسبيل الغي، مع الالتفات إلى أن المال آصرة مشتركة بين السياسة والاقتصاد، فهو للسياسة ذراعها، وهو للاقتصاد عصبه، ومن ثم فتهميش الدين كاشف عن انحياز الناس إلى جهة المال بل انحيازهم للمال وازدرائهم للدين بينه الحق سبحانه بقوله {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(المائدة/64)، لماذا قال هؤلاء يد الله مغلولة؟؟!! لأن ميزان بسط اليد لديهم هي المادة (المال)، والمرسلون من الله سبحانه أبدا لا يأتون بهذا بل يأتون بالعلم الذي هو مائدة السماء لإحياء النفوس، وأولئك همهم بناء الأجساد، ومما يؤسف له أن البشرية في هذا العالم غالبا ما تقصر نظرها على الأجساد والصور ولا تذهب بنظرها إلى محرك هذه الأجساد والصور، والحق سبحانه في كل شيء يكلمهم أن المهم هو أن تنظروا إلى من يحرك الأجساد والصور ولا تفتنوا بالأجساد والصور ذاتها .
قال عيسى(ع) في الكتاب المقدس: [لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون.ولا لأجسادكم بما تلبسون.أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. انظروا إلى طيور السماء.إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن.وأبوكم السماوي يقوتها.ألستم انتم بالحري أفضل منها. ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة. ولماذا تهتمون باللباس.تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو.لا تتعب ولا تغزل. ولكن أقول لكم انه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فان كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا أ فليس بالحري جدا يلبسكم انتم يا قليلي الإيمان. فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس. فان هذه كلها تطلبها الأمم.لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها. لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم. فلا تهتموا للغد.لان الغد يهتم بما لنفسه.يكفي اليوم شره.] وبهذه الكلمات النورانية للسيد المسيح(ع) يتبين للقارئ ما معنى قيام الدين وحكمه، وبالمقابل ينكشف سر هذه المواجهة الشرسة التي يرفع رايتها أصحاب الأموال والسادة والملأ، لأنهم يعلمون إذا لم يهمش الدين ولم تعرض عنه الناس فسيفتضح هذا المخطط الخبيث الذي وضعه أرباب الأموال كي تكون لهم السلطة على رقاب العباد وإن كان في تلك السلطة فساد البلاد والعباد!!
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2061 الجمعة 16 / 03 / 2012)