أقلام حرة

الصراع حول سوريا / ميثم الجنابي

الأمر الذي وجد ويجد انعكاسه في اختزالها بثنائية بسيطة ومباشرة هي صراع وتناقض السلطة والمعارضة. ومن ثم جعل كل منهما أما "حقيقة الحقائق" أو ما يناقضها، أو "فضيلة الفضائل" أو ما يناقضها. ولا تخلو هذا المعادلة من مقدمات وأسس واقعية، لكنها شأن كل حكم سياسي أو أيديولوجي جازم عادة ما يصنع نقيض ما يدعو إليه. ومن ثم الدوران في حلقة مفرغة هي عين ما ادعوه بتوليد الزمن الراديكالي، أي زمن بلا تاريخ. الأمر الذي يجعل من الضروري تحديد الإشكاليات الكبرى والعامة ومن خلالها أو عبرها النزول إلى الإشكاليات الخاصة للحالة السورية من اجل البحث عن بدائل واقعية وعقلانية للكل السوري، أي للمجتمع والدولة والنظام السياسي

إن أحد المظاهر الجلية للحالة السورية الحالية تقوم في تحول سوريا إلى ميدان للصراع الإقليمي والعربي والعالمي. الأمر الذي يعني من بين أمور عديدة، أن لسوريا خصوصيتها في "الحالة الثورية" العربية الأخيرة. وبما أنها حالة لم تنته، ولن تنتهي في مجرى العقدين القادمين كحد أدنى، من هنا يمكن النظر إلى الحالة السورية باعتبارها إحدى اللحظات الكبرى العاصفة في الصيرورة الجديدة للعالم العربي. والسبب يكمن في أن سوريا هي بداية الصيرورة العربية القومية الحديثة، كما أنها آخر قلاع الزمن الراديكالي وأنظمته السياسية التي انتهت، كما يقال، صلاحيتها الاجتماعية والقومية والسياسية والمستقبلية. وبالتالي، فان ما يجري في سوريا هو الامتحان النوعي الجديد لتعقيد ودرامية مرحلة الانتقال الكبرى العاصفة في العالم العربي وآفاقه المستقبلية.

فعندما نتأمل مجرى الأحداث العاصفة للعالم العربي في مجرى العقود الثلاثة الأخيرة، فإننا نقف أمام انحسار المثلث العربي (مصر والعراق وسوريا)، وبالمقابل صعود وتعاظم دور المثلث الاطرافي (الخليجي والأمريكي والأوربي) في تسيير الأحداث في العالم العربي. بمعنى إننا نقف أمام انقلاب مشوه في مسار التاريخ القومي. مع انه يحتوي على ملامح ايجابية فيما يخص دول الخليج العربية (أو شبه العربية). فهي المرة الأول التي تدخل فيها بقوة في الشأن العربي، ومن ثم تتحول إلى قوة داخلية فيه، بعد أن كانت (وما تزال من حيث الجوهر) تقع على أطرافه بسبب امتناعها الذاتي، أو ما أطلق عليه الفكر القومي العربي عبارة استعصائها على فكرة التوحيد القومية العربية، وبالأخص بالنسبة لمملكة آل سعود. ليس ذلك فحسب، بل وعملها الدءوب وتسخير كافة إمكانياتها من اجل تخريب كل عمل قومي موحد بالمعنى السليم للكلمة. ولا تشذ سياستها الحالية بصدد الحالة السورية، تماما كما جرى الأمر سابقا مع مصر (منذ عبد الناصر) حيث لم تنته سياسة ومغامرة ومؤامرة التخريب إلا بصعود الحثالة المصرية بشخصية السادات وبلوغ درجة الحضيض "التام" زمن حسني مبارك. والشيء نفسه يمكن رؤيته على مثال العراق. إذ نقف أمام نفس النموذج العملي العلني والمستتر بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي في حال بقائه ضمن تقاليد الرؤية الوطنية والقومية حتى في حالتها المشوهة (عبد الكريم قاسم وصدام حسين والآن أيضا).

الأمر الذي يشير إلى أن هناك بؤرة قلقة في الصيرورة العربية لم يجري فك مكوناتها من اجل معرفة ما إذا كان بالإمكان تحولها إلى عاصفة مخربة على أطراف الجزيرة أم أن تسير سيولها صوب إخصاب المنطقة بنوعية جديدة من البدائل القومية. فقد أدى تفكيك العراق، رغم كل مفارقة هذه الظاهرة، إلى إعادة لحمته بطريقة قوية وأولية. من هنا يمكن فهم الحمية الشديدة التي كانت وما تزال تقف وراء هواجس ووساوس ونزوع الدويلات الخليجية ومملكة آل سعود بشكل خاص، من اجل إجهاض وتخريب البنية العراقية الوطنية والقومية الآخذة بالنمو والتكامل رغم كل طابعها الخرب والمعقد، عبر تغذية وشحن الطائفية بكل الوسائل والأساليب. من هنا نتوء شيح "الهلال الشيعي" في مخيلة البنية التقليدية للعائلات، أو الأسر الحاكمة كما يطلق عليها بصورة رسمية في الخليج. بعبارة أخرى، إذا كان العراق قد "فلت" من قبضة الرشوة الخربة للدويلات الخليجية، فان إعادة تطويقه من جديد تفترض فتح "الجبهة" المخربة التي وجدت في دعم "الثورة" السورية أسلوبها المناسب. بمعنى محاصرة المثلث العربي القومي الفاعل، بعد أن اخذ يتحول صوب المثلث الاجتماعي السياسي القومي الجديد. وبما أن العراق وسوريا أصبحا أكثر حلقاته ضعفا، من هنا يمكن فهم سر هذا التكالب الشديد حولهما.

فعندما نتأمل حالات "الثورات العربية"، فإننا نقف أمام مظاهر مختلفة لحالة كبرى واحدة، آلا وهي ضرورة الإصلاح السياسي. من هنا تخوف الدول جميعا من هذه الصيرورة الاجتماعية والسياسية القومية الكبرى والتاريخية المثلى. وبالتالي اشتراكها جميعا أما بمؤازرة "الأسر الحاكمة" أولا، ثم محاولة الالتفاف عليها بطرق مختلفة من خلال نقل "الحريق" بعيدا عنها، بما في ذلك اشتراكها الفعال من اجل جعل القوى الاستعمارية السابقة سباقة في دخول "المعركة الثورية"، كما جرى في ليبيا. فقد استطاعت تونس ومصر واليمن خوض المعركة بقواها الخاصة. كما أنها جرت بسرعة مذهلة لم يكن بإمكان القوى الأجنبية (الاوروامريكية) والاطرافية (الخليجية) رؤية مسارها، كما أن قوى الثورة لا علاقة لها بنمط القوى السياسية والأحزاب التقليدية. من هنا صعوبة التعامل السريع معها، وذلك لأنها كانت خارج الأنماط القابلة "للتقويم" بمعايير التدخل المحتمل من القوى الخارجية والاطرافية. من هنا تهالك هذه القوى السريع من اجل دخول "معركة الثورة" الليبية، التي يتحمل القذافي ونظامه السياسي الهمجي، مسئولية بدايتها ونهايتها.

لقد كان "الدرس الليبي" أو التجربة الليبية "للتدخل السريع" في شئون العملية السياسية الدرامية أكثر إثارة لشهية القوى الأجنبية والخليجية بالنسبة للحالة السورية. وقد كان العامل الحاسم لهذه الرؤية المشتركة بينهما يقوم بقدر واحد في التخوف المرعوب من شبح "الهلال الشيعي" المحتمل بالنسبة لمملكة آل سعود والدويلات الخليجية شبه العربية من جهة، وللثأر التاريخي من سوريا القومية من جهة أخرى. وكلاهما يخدمان مشاريع المصالح الإقليمية (التركية) والعالمية (الأمريكية والأوربية) ويتناغمان معهما. وفي هذا يكمن السر الفعلي لتحول سوريا إلى بؤرة الصراع الإقليمي والعربي والعالمي. وتداخلت مستويات هذا الصراع وتجمعت في سوريا بسبب كونها المنطقة الأخيرة التي يتوقف على كيفية حلها طبيعة ونوعية المسار اللاحق للصيرورة العربية الجديدة ومزاجها الثوري، أي صوب الإصلاح الفعلي أو التنشيط المدمر للصراعات الجزئية وغير العقلانية بمختلف أشكالها ومستوياتها. وذلك لان تحويل سوريا إلى بؤرة خربة للصراع غير العقلاني لا يعني فقط تحطيم سوريا الدولة والوطن والمجتمع والقومية، بل وجعل منطقة الهلال الخصيب منطقة حرائق جدباء. وفي نهاية المطاف إعادة ترتيب "سايكس بيكو" اشد تخريبا.

فالوعي الأوربي (الفرنسي البريطاني بوصفهما القوى الأكثر حمية في الصراع ضد سوريا) ما زال أسير التقاليد السياسية وأنماط رؤيتها الكولونيالية، كما أنها تعمل بمعايير ومتطلبات صراع المصلح الحالية وإعادة تقسيمها. الأمر الذي يمكن رؤيته أيضا في صراع المصلح العالمية الكبرى حولها (الغرب الكولونيالي وحلفائه الخليجيين من جهة، والروسي والصيني وحلفائه الجدد إيران وسوريا من جهة أخرى). بعبارة أخرى، إننا نقف أمام صراع مصالح قديمة - جديدة. فالعولمة ليست وحدة فقط، بل وصراع ضمن وحدة جديدة. ومن ثم تحتوي أيضا على إمكانية ضم بلا حروب وإعادة تقسيم تحت شعارات "ثورية" و"ديمقراطية" و"حقوقية". ولعل مشاركة دول الخليج السافرة والعنيفة بالدفاع عن الثورة والديمقراطية والحقوق من بين أكثرها غرابة وإثارة للالتباس أمام المنطق والعقل والضمير. لكنها تصبح معقولة حالما يجري وضعها ضمن الأسباب الفعلية القائمة وراء تحول سوريا إلى بؤرة الصراع العالمي الحالي التي جرت الإشارة إليها أعلاه.

إن وقوف اغلب الدول العربية الحالية وعلى رأسها مملكة آل سعود ودويلات الخليج شبه العربية إلى جانب "الثورة" هو وقوف ضد سوريا أولا وقبل كل شيء. وذلك لأننا نستطيع تصور كل شيء، باستثناء دعم دويلات الخليج ومراكز الكولونيالية القديمة (والجديدة) لفكرة الثورة الاجتماعية والتحرر القومي الفعلي. بل على العكس، أن حميتها النشطة واستماتتها في الصراع حول سوريا هو نتاج الوعي السياسي بحقيقة سوريا وليس بحقيقة الثورة. فالثورة "السورية" الحالية هي ليست "حقيقة سورية". وبالتالي، فان دعم القوى الكولونيالية والاطرافية "للثورة" هو شكل من أشكال الانتقام التاريخي ضد التاريخ السوري الحديث وسوريا بوصفها بؤرة الكينونة العربية القومية الحديثة.

***

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2061 الجمعة 16 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم