أقلام حرة

وطني .. رغم الجحيم / مهدي الصافي

عاشت بلا حدود ملغمة، تمتزج فيها الحضارات ولاتعرف صفة الإلغاء، حتى ظهرت حضارات بربرية همجية هنا وهناك، فصارت الإمبراطوريات الكونيالية الحديثة مثالا للإقصاء الثقافي رغم تنوعها، وادعاءاتها بتخليص الشعوب المتخلفة من جهلها وأنقذاها من أوحال التراث المتكلس المنهك.

نرى إن الأعراب بدو الصحراء هم أكثر الناس التصاقا بالمعنى المادي للوطن، هم يرون إن الحياة فوق ارض مليئة بالخيرات (الماء والعشب-الكلأ) تكفي لتكون غطاءا لهم ولعوائلهم ولحلالهم (الأنعام بمختلف أنواعها)،

ولن ترغمهم قوة على الرحيل إلا قوة الثارات، وجفاف منابع العيش، لكنهم عندما يختارون الرحيل يختارونه جماعات لا أفراد، وهذه هي لعنة الاختلاف بين الهجرة في الماضي، والتغريب والنفي في الوقت الحاضر،

الوطن عندهم بقعة من جغرافية الجزيرة العربية، وبيوت من الشعر وفناجين قهوة ودلة (إبريق القهوة) الضيافة، ولكن في عصر مابعد الحداثة،

اختلف تعريف الوطن، أصبحت القرية الكونية حاضنة للثقافات، والديانات، والحضارات، والأفكار، والمعتقدات، وكل شيء يحيط بنا، وصار التدخل الدولي تحت مسميات الحقوق والحريات وحماية المصالح أمرا معتادا،

بل وضروريا كما يتصورون، وكما يعتقد من يقبع تحت سياط الأنظمة الكلاسيكية العتيقة الاستبدادية،

من يحاول أن يسحب نفسه وبيئته ومجتمعه، أو دينه وثقافته عن دائرة اللعبة الكونية للعولمة،

سوف يخرج من باب فيعود من الأخر، لن تفلت هذه المجتمعات من حبائل وشباك هذا الشروط الكونية الامبريالية، ولكن هل هذه الامبريالية أفضل من بشاعة حكامنا ونخبنا السياسية المتبرجزة (البرجوازية القروية)، التي ساهمت مع التركة الثقيلة المتخلفة الموروثة من الأنظمة السابقة، في تذويب الإحساس الوطني وتدميره، وحصره في أفق ضيق، تحدد بحدود الجغرافية العشائرية والقبيلة والطائفية أو الاثنية، وهذه واحدة من اشد الأخطار فتكا بالمجتمع وبمفهوم المواطنة أو الوطنية

(كنت أتحدث إلى مجموعة من الأصدقاء الأكراد الذين يصرون على أولوية الطموح والأمنيات في الحصول على كيان لدولة كردية أو ما يسمى حق تقرير المصير، أقول وماذا عنكم وعن طموحاتكم الشخصية الاجتماعية في ضل النظام الديمقراطي، أليس هناك شيئا أخر غير الطموح المعنوي الأسير لجغرافية المكان والأرض، والذي لن يكون طموحا من اجل الإنسان وحقوقه الشخصية والثقافية (ليست الثقافية القومية، فالقومية والتراث الاثني، لن يكونا اكبر من ثقافة اجتماعية وبيئية عامة ومشتركة مع الانجاز البشري الكوني، تشمل كل شيء، كل الأمكنة والأزمنة) والنفسية والاجتماعية المحصورة بين البيت والشارع والمحيط البيئي الصغير، الأولى أن تعمل من اجل حقوق أولادك وأبناء مجتمعك، لا إن تعمل من اجل كراسي السلطان أيا كانت جنسيته ولونه وطائفته أو عرقه)

ترى هل حملة الفساد والفرهود والسرقة المنظمة والغير منظمة، لثروات العراق من قبل بعض المسئولين الحكوميين، وبعض قيادات الأحزاب العراقية، والمقاولين والموظفين، وشرائح كبيرة من المجتمع، والوساطة البينية المستخدمة في توزيع مناصب الدولة رغم قلة الكفاءات، والإخفاق الرسمي في تحسين واقع الخدمات والاقتصاد والصحة والتعليم والبيئة والبطالة،

إضافة إلى ذكريات الإرهاب والفتن والحرب الطائفية رغم محدوديتها، كلها عوامل تساعد على سحق مفهوم الوطن،

وتشجع الجميع بما فيهم المنعمون والمترفون من مسؤولي الديمقراطيات المقنعة والمقولبة داخليا، على تأخير قدم العودة الأخرى المزروعة في الوطن الثاني(الخارج الغربي)،

لقد تحول وطننا العزيز إلى لبنان أخرى، حتى باتت صرخات رجال الدين هناك المتعلقة بعدم الهجرة وترك البلد مسموعة في كل مكان، وتلقي بصداها في شوارع بلادنا الفارغة تقريبا من الكفاءات والخبرات والطاقات الإبداعية المهاجرة(بعد أن استهدف الإرهاب أغلبية كفاءاته العاملة في الداخل)،

جعلت من الدعوات الجماهيرية المطالبة بعودة المهاجرين والكفاءات إلى بلادهم مهمة صعبة، وخصوصا بعد أن اطلع العديد ممن زار العراق الديمقراطي على الواقع المزري للبلد، وسمع من العديد حول رغباتهم بالهجرة(وترى الكل يلوم تلك العودة أو الزيارة )، لنسمع لما يقوله العراقي حول الوطن رغم حبهم الجنوني له،

ماذا قدم لنا الوطن وقد سلبت منا ومنه:

1-الأمن والأمان

2-الكرامة والآدمية البشرية

3-حقوقنا العامة وحرياتنا الخاصة أو الشخصية

4-عمرنا المصروف في حروب عبثية

5-الحصار الاقتصادي والذي جاء بسبب مغامرات النظام السابق

6-ديمقراطية التوافق والمحاصصة والأعمار الصوري

6-الإهمال الحكومي واللامبالاة بتوفير الخدمات (الكهرباء-الماء الصالح للشرب-الصحة-السكن-الطرق والجسور-قلة المدارس-تجاوزات المسئولين على أملاك الدولة، الخ.)

7-وتحجيم السلطة القضائية والحد من دورها في متابعة تنفيذ العقوبات(كإصدار قوانين العفو بحق المدانين والمزورين)

8-إهدار أموال الدولة في علاج مسؤولي الحكومة في الخارج وبتكاليف باهظة

9- وتغييب بعض مفردات البطاقة التموينية، واستيراد مواد بعضها فاسد والأخر اقل كفاءة

10-الوظائف الحكومية المهمة من أصحاب الكفاءات وإعطاءها للمحسوبيات السياسية والعائلية

11-حقنا وحق السلطة المدنية والرسمية المستقلة والنزيهة في محاسبة سير المسئولين في الشارع والدوائر الحكومية عكس السير والقانون

12-عدم تنفيذ رغبات الناخبين وتغييب وجهات نظرهم والسماع لاحتياجاتهم

13-إهدار ثروات البلد في المنافع الحكومية الاجتماعية والتأثيث الفاخر للوزارات ومكاتب المسئولين

14-

عدم تعويض جميع ضحايا النظام البائد والإرهاب الحالي

15-.....................مفتوحة لمن يشعر إن الوطن سلب منه حقه في متابعة أمر ما، الخ.

يبقى هاجس ماذا قدم لي الوطن عند الإنسان العراقي المغترب، وهو بالطبع نفس الهاجس الذي يشعر به المواطنين الراغبين بالهجرة،

هو المقارنة بين ماقدمته الدول الحضارية (الغربية)للعراقيين أو العرب لمقيمين فيها، التي استقبلتهم واحتضنتهم، وقدمت لهم ولأولادهم كل الإمكانات المتاحة(الاحترام الآدمي للإنسان-وهم ذو نزعة إنسانية قلما نجدها عند حكوماتنا العربية، الضمان الصحي والتعليمي والخدمي والوظيفي، هذا فضلا عن منح غالبية المقيمين عندهم جنسية البلد)،

بينما نجد إن دولا عربية وإسلامية كانت يابسة عروقها، وجافة من الضمير أرواحها المجردة..،

تمتنع أحيانا عن منح العراقي أو المواطن العربي (من دول المغضوب عليهم) حتى فيزة المرور في المطار (ونحن نكافئها بقمة بغداد).

إذن كيف نقارن بين وطن الجذر الأول، ووطن الشتل الثاني، وفقا للتجربة يمكن أن يكون العراقي سفيرا للحضارة الشرقية العالمية،

 إن كان مهتما بالثقافة والإبداع والفكر وحتى السياسة والمجتمع، وان يتواصل حتى أخر رمق في حياته مع بيئاته القديمة والحديثة، مجبرا على التعايش السلمي بين جوازين، وجنسيتين، وثقافتين متناقضتين ومختلفتين،

وعليه أن يقلع من تفكيره لغة المقارنة البائسة، ويمحوا من مخيلته الصورة التأملية الخيالية الغريبة عن الواقع حول بلاد الرافدين وبغداد ألف ليلة وليلة،

لأنها مؤلمة ولاتجدي نفعا، لان قطار الحضارة يحتاج وقتا طويلا حتى يصل محطته الأخيرة في البلدان المتعبة،

أو ماتسمى بلدان بقية العالم (العالم الأخر وهي كما يقول احد المفكرين العرب أكثر احتقارا من عبارة بلدان العالم الثالث)،

انه الوطن بكل مايحمل، لايوجد خيار أخر إلا الموت، أو البحث عن دواء للنسيان،

انه منبت الشجرة العائلية الطويلة الاعراق، رغم انقطاع أنسال شجر الحضارات العالمية،

(روى صديق يقول بعد زيارته لبلده شاهد أطفاله منظر عربات الحمير فصرخ أولاده رجاء أرجعنا إلى بلدنا-يقول النظر غير مألوف زبالة في كل مكان ومنظر حيوان غريب يعيش وسط الناس...اما الأخر فيقول لقد حقنت إبرة مخدر فاسدة وغير صالحة للاستخدام البشري-فقد كشف عن إنها إبرة لتخدير الثيران)

يبقى وطني رغم الجحيم..

أم لعلها تغيرت عند الكثيرين ..فقد أتعبتهم لعبة نهاية التاريخ، وللجميع حق في الاختيار

 

مهدي الصافي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2062 السبت 17 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم