أقلام حرة

هل مجتمعاتنا تصنع الذئاب لتحكمها دائما؟ / عماد علي

التي لا يمكن الدخول فيها او التوصل الى نتائجها في اي مجتمع اخر في البقاع الاخرى من العالم، انها الظروف الموضوعية والذاتية المختلفة الموجودة في هذه المنطقة التي تفرض العديد من الافكار والتوجهات، ولا توجد في مناطق اخرى . انها العوامل ذاتها التي تدفع ربما بالشعوب والامم ان تعيد نفسها بعض الشيء في الصفات والسمات وانما بشكل نسبي، او تحوي في طيات معيشة ابناءها ما توارثته من العوامل التاريخية السابقة، انها العصور التي تحوي على العناصر والحوادث التي تكرر نفسها وتصنع المنتجات ذاتها بطرق واساليب مختلفة . انها الشعوب والامم التي تتميز عن الاخرى بسمات وتتميز بصفات اصيلة خاصة لا يمكن ايجادها في الاخرى واختلقت لوجود العوامل الذاتية الموضوعية التاريخية الضرورية اللازمة لبنائها .

يقول جبران خليل جبران: ويل لامة تقابل كل فاتح بالتطبيل والتزمير ثم تشيعه بالفحيح والصفير لتقابل فاتحا اخر بالتزمير والتطبيل . اي ما تعمق فيه المفكر العظيم جبران نتلمسه اليوم في اعادة الظروف والواقع المعاش بسهولة في مجتمعاتنا؛ والتي تنبع من الصفات الذاتية اكثر من غيرها؛ والتي تجذرت ومن الصعب استئصالها بين ليلة وضحاها، بل يمكن تحقيق النتائج المشجعة في بدء عملية طويلة ومعقدة لمحاربة ما وصلتنا الى ما نحن فيه، كي نصنع ونبني مجتمعا جديدا مختلفا، ولكن بشكل تدريجي .

التخلف السائد على منطقتنا ليس وليد اليوم او الامس ولا يمكن اعتباره انبثاق مفاجيء في لحظة ما وفي ظروف خاصة، انه ناتج طبيعي لوجود مسبباته الواقعية الطبيعية، وهو من نتاج التراكمات التاريخية المختلفة للمنطقة وفي مقدمتها التوجهات والعقليات والافكار ماوراء الطبيعية او الخيالية . مجتمعات فيها من المستويات الاخلاقية الثقافية الاقتصادية والخصائص الاجتماعية المتباعدة عن البعض، فيها من لم يتورع عن اي عمل فضيع ومؤذي وفيها من يضحي من اجل ما يؤمن به او من اجل وطنه وغيره من الناس، وفيها من يعيش مسالما طوال حياته لا يخصه ما يتغير او في طريقه الى التغيير مهما كان او مهما لمس حياته، وهو ربما يؤمن بمباديء معينة مقتنع بما يكسب بجهده وعقليته وعمله، وفيها من يخلط بين المادي والمثالي والقديم والجديد ويوثق ما يعتقده ويعمل على ان ينقل ما يعتنقه من الافكار الى الواقع بشكل ما . انها حقا مجتمعات لا تحتمل تعريف وتشخيص معين ومتغير وفق المرحلة وما يتجدد فيها، هناك مراحل تخص هذه المجتمعات يمكن ان يفتخر بها الانسان من العديد من الجوانب، وهناك اخرى لا يمكن الا ان تُنعت بصفات مبتذلة، مجتمعات جمعت بين الاسود والخرفان في مراحل مختلفة، خلقوا احيانا الذئاب لتاكلهم وتنهشهم في النهاية، اما هذا المجتمع بذاته خلق الاسود واختار اشجع الاسود لتحكم فيهم .

اما في المرحلة التي نعيش، انها في اسفل المستويات المادية كانت ام المثالية، الى حد لا يمكن ان توائم اية متغيرات عالمية، انها منطقة تحوي ما يدفع كثيرا الى حال يمكن ان تكمن فيها ما يشجع على ان يكون الوضع الاجتماعي مستقر لربما مصاحبا للوضع الاقتصادي والسياسي المعقد وبانتظار التغييرات الثقافية المطلوبة في اكثر الاحوال، او تسبق الحالة الثقافية المتطورة الاوضاع الاخرى وتسحبها اليها بعد حين. اما ما تؤخذ عليها هو الاحتمال الوارد في استقرار السلطة السياسية بايدي الذئاب والعاجزين عن تسيير امور الناس بشكل مشجع ومطمئن لحد الان . ويمكن ان توصف مرحلة ما قبل الثورات بمرحلة التخلف وعصر الكبت والاختناق والاغفال وانتشار الصفات الخرافية ومانعة للتحديث والتجديد ومنصاعة للظلم والاستبداد، لترى نفسها اخيرا مجبرة على الانسلاخ من ما اكتسبتها طوال التاريخ والتوجه نحو ما يحررها لتعيش بحرية بعد الخلاص من الانظمة الدكتاتورية الشمولية، وعلى الاقل للخروج من فترة السذاجة التي مرت بها .

اليوم، اننا بصدد عصر جديد بكل معنى الكلمة، اننا نسمع انينا هنا ونرى بصيصا من النور في البعيد ونشم ما يؤملنا على ان هناك من الاراء العقلانية الواقعية التي تعتبر في نظر مثل هذه المجتمعات المعلومة الشكل والتركيب بانها شاذة عن القاعدة المعلومة من مرورها بمراحل التطور الكلي العام، فكم من افكار واراء وتوجهات وتعابير اعتبرت في مرحلة ما شاذة وغير قابلة للتطبيق والاعتقاد والاقناع او القبول النسبي على الاقل، بينما فيما بعد تعودت الناس عليها واثبتت صحتها والتفت الناس حولها واصبحت من الثوابت الان .

قبل ثورات الشرق الاوسط، لم تكن هنا في هذه المنطقة الحرية المطلوبة كي تتمتع بها المجتمعات من اجل العيش بامان وسلام لكي تنال الناس الراحة والرفاهية، الا ان وعي الناس بمكامن وفوائد وابعاد الحرية كان سابقا على تحققها عندهم، كما هو حال اليوم وما يعيشونه على الارض وما هم فيه . وهذا بديهي  على الناس ان يستثمروا ما كسبوه من هذه المنجزات الانية من الثورات، بينما الايجابي الوحيد الذي نلمسه بالوضوح التام وعلى العلن، هو ترسيخ الحرية من كافة جوانبها، واليوم تفرق الناس بين الجلاد والضحية ولا يمكن ان يُحترم الجلاد مهما كانت ادعائاته كما كان بالامس، ولم تبق الضحايا بعد الان تغلق على نفسها وتبعد عن الحياة ولم تنعزل، بل انها تنعكف على ايجاد الاحسن فيما هي تتمناه دائما، بل تصرخ باعالي صوتها مطالبة بحقوقها وتناضل من اجل تحقيقها بكل السبل .

هناك ضغوطات شتى وبمختلف الوسائل على المجتمعات الثائرة، سواء من القوى التي تربصت بكل ما يبان او يتوقع منه المطالبة بالتغيير او وجود احتمال لعمل دافع لحدوث ثورات او المختفي تحت يافطات فكرية شتى يؤدي الى الانتقال الى مرحلة اخرى، وما هو الواضه هو انه الكل يجهد ويحاول ان يكسب الوقت لصالحه ومن اجل تثبيت ما يؤمن به الان. ومن الامور الشاذة التي تصر عليها الجهات الخيالية والتي تحاول ان تبتز الناس بما تعتقده، وهو محاولتهم باقناع الناس بما هو مخالف للعقل والمنطق واجبارهم على تصديق ما يؤمنون به هم فقط دون غيرهم، دون ان يتركوا لهم مجال التفكير والتعمق فيما هم فيه محاولين ابعادهم عن الدلائل والعوامل المبشرة العقلانية والانسانية، وهذا ما يدفع كثيرا بالاعتقاد على انهم ربما يدفعون الناس الى ارتكاب الاخطاء ثانية ومن ثم تعاد عليهم المآسي باشكال وانواع واسماء مختلفة، وهم ينشرون ماهو الشاذ بتعابير مختلفة وباسم الحلال والحرام في اكثر الاحيان، الا ان كل المؤشرات لا تدلنا على نجاحهم في مهامهم .

من التقييم الصريح الواقعي السابق للمجتمعات الثائرة التي نحن بصدد قراءة واقعها بعد الثورات، يتوضح لدينا بان هذه الشعوب لم تعد تتحمل الاغفال والخداع، واخرجت بنفسها من التقوقع الى الابد، ولا تقبل الانحسار ولا يمكن ان نصفها بالمجتمعات الساذجة في هذه المرحلة، ولا يمكن ان نعتقد بانهم المجتمعات التي تزمر عفويا لكل من يعتلي على اكتافهم بالحيل، ولا يمكن ان يقتنعوا بسهولة بكل جديد زائف ان لم يقتنعوا بما هو الاصح فيما يعرض على العلن . لذا وان انحرفت الثورات من مسارها بشكل ملحوظ في هذه اللحظات، الا انه لا يمكننا ان نعتقد ان تصبر المجتمع الواعي على الظلم والاستبداد والاحساس بالاهمال والاغفال، وبه يمكن ان نتوقع تكرار الثورات او توحيد الجهود من اجل اكتمال الثورات او ايجاد الطريقة الملائمة لتصحيح مسارها، وانه لبديهي ان تستقر الثورات على ماهو الصحيح في النهاية، ولم تعد مجتمعاتنا خرافا كما وُصفت بها في المراحل السابقة لكي تتقبل اي واقع  مهما كانت مرارته، على الدوام، او ان يتوقع احد بانها تخلق حكاما جائرين ذات الصفات الذئابوية  بعد اليوم 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2063 الأحد 18 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم