أقلام حرة

العراق وفلسطين وقمة بغداد / وليد العبيدي

وفيه شهدت الحضارة العربية الإسلامية بانجازاتها العلمية والأدبية  أوج عزتها وإذا كان قد شهد انحدارا منذ نهاية آخر خليفة قوي هو المتوكل ثم أفولا مع بداية السيطرة العثمانية فإن ذلك قد شمل كامل المنطقة العربية حتى بداية ظهور الأفكار القومية العربية مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخه الحديث عشية تفكك الإمبراطورية العثمانية واحتلاله من قبل بريطانيا ونيله الاستقلال السياسي، ولو شكليا، بعد ذلك الاحتلال ببضع سنوات...

وقد عادت أنظارا لفلسطينيين للتوجه نحو العراق مع بداية تصاعد نسق هجرة اليهود الأوربيين خاصة من شرق أوربا إلى فلسطين التي ابتدأت من منذ نهاية القرن التاسع وصدور "وعد بلفور" في 1917  ثم ليتوج مخطط المنظمة الصهيونية العالمية بإعلان قيام دولة إسرائيل في 1948 على أساس قرار الأمم المتحدة الصادر في نوفمبر 1947  والذي قضى بتقسيم  أرض فلسطين إلى دولة يهودية  وأخرى عربية  (سمي عام النكبة الفلسطينية) والذي رفضته الأنظمة العربية لينتهي هذا الرفض باندلاع أول حرب عربية إسرائيلية لعب الجيش العراقي، رغم قلة عدده (لواءا واحدا) دورا مشهودا في التصدي للعصابات الصهيونية المسلحة وتكبيدها خسائر كبيرة....

و لا يزال هناك في منطقة جنين مقبرة لرفات الجنود العراقيين الذين قتلوا دفاعا عن أرض فلسطين...

ورغم أن معظم القادة العرب آنذاك والمرتبطين بالاستعمارين البريطاني أو الفرنسي لم يكن يجد إقامة دولة إسرائيل ما يشكل تهديدا لحكمة إلا أنهم اضطروا إلى الرضوخ لضغط الجماهير  وإتباع  سياسة مناصرة لفلسطين مع عدم إنكار مشاعر العديد منهم المتعاطفة مع الفلسطينيين كونهم عربا مسلمين تعرضوا لمظلمة تاريخية..و.يمكن القول أن الظلم الذي أحاق بالفلسطينيين وتشرد معظم سكان فلسطين في دول الجوار العربي  كانت الحاضنة التي أنبتت المشاعر الوطنية والقومية المعادية للاستعمار البريطاني والفرنسي بين طبقة المثقفين وجزء مهم من ضباط الجيش في  الدول العربية المحيطة بفلسطين والقريبة منها وكانت المحرك الرئيسي لقيام الثورات العربية في مصر وسوريا والعراق فقد كان جمال عبد الناصر وكذلك عبد الكريم قاسم من الضباط الذين ساهموا في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 وشهدوا من هناك تواطؤ الأنظمة العربية الحاكمة مع الاستعمار البريطاني  والفرنسي...

وظلت مشاعر تعاطف العراقيين مع فلسطين دون أن يمسها ضرر كما واصل الفلسطينيون التطلع نحو العراق ليلعب دورا حيويا في استعادة حقوقهم حتى تسلم حزب البعث السلطة في العراق في 17 تموز 1968...عندها بدأت مرحلة جديدة اتسمت بمحاولة بعث العراق فرض رؤيته الخاصة للصراع العربي الإسرائيلي وشكل فصيلا مسلحا باسم" جبهة التحرير العربية" أراده منافسا لبقية الفصائل الفلسطينية المسلحة وكان المال إحدى وسائله لجذب المتطوعين الفلسطينيين إلى صفوف هذا التنظيم  وعمل على شق الفصائل الفلسطينية بين مؤيد لنهجه ورافض له وعلى الصعيد العربي دخل في تنافس مع نظام  جمال عبد الناصر ومن ثم النظام السوري...وقد بلغ الصراع بين العراق ومنظمة" فتح" كبرى المنظمات الفلسطينية درجة قصوى في 1978عندما أقدم نظام البعث على استضافة القائد الفلسطيني صبري البنا  (أبو نضال) المنشق عن حركة فتح  واستخدامه في اغتيال قادة فلسطينيين في فرنسا وبروكسل...وقد تبين فيما بعد أن أبا نضال كان يعمل لصالح الموساد الإسرائيلي....

وكان اندلاع الحرب العراقية ألإيرانية في أيلول من عام 1980 سببا في بعث الاضطراب في صفوف الفلسطينيين الذين كانوا ينظرون إلى الثورة الإيرانية بمنظور إيجابي وهي التي أغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران وسلمت بناية  السفارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتفتح سفارة لها في طهران...بالطبع لم يكن النظام الثوري في إيران  يبحث عن كسب دعائي بإقدامه على هذا الفعل بل لأن نظام الشاه كان يحتفظ بعلاقات قوية سياسية واقتصادية مع إسرائيل ويزودها بالبترول وكان هناك تنسيقا عالي المستوى بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية وأجهزة مخابرات الشاه خاصة جهازه السئ الصيت المسمى "السافاك"  والذي كان يستفيد من تقنيات التعذيب وانتزاع الاعترافات التي تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين...

غير أن الضغط السعودي-الخليجي المالي والدعاية المعادية لإيران نجحت في استمالة ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين الأمر الذي أزعج القيادة الإيرانية منه بينما ظل العديد من القادة الفلسطينيين ومنهم "ابو جهاد" يقفون موقف المتحفظ من العراق ويرون أن الحرب كانت ظالمة وغير مبررة وأضعفت   جبهة المؤيدين لفلسطين وشغلتهم  بصراع ثانوي خدم إسرائيل...

وقد زاد اقتراب منظمة " فتح" وزعيمها ياسر عرفات من العراق بعد إقدام إسرائيل في صيف 1982على مهاجمة لبنان واحتلالها وطرد قوات وأجهزة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها من لبنان إلى منافي عربية متعددة حيث اتهمت المنظمة وخاصة فتح القيادة السورية  بالتقصير المتعمد بل خيانة المنظمة عندما وقامت عشية الهجوم الإسرائيلي على لبنان بتجميع القوات السورية الموجودة في لبنان في منطقة البقاع غربي لبنان لحمايتها وتركت المنظمة لمصيرها...ولئن كانت القوات السورية أو جزءا منها قد خاض معارك قوية مع الجيش الإسرائيلي في منطقة البقاع إلا أن القيادة الفلسطينية اعتبرت إقدام سوريا على توقيعها اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل بوساطة أمريكية قد ترك القوات الفلسطينية دون حليف وهو ما اعتبرته المنظمة خيانة لفلسطينيين....

كان العراق وقتها غارقا في حربه مع إيران وقد اقترح على إيران وقف إطلاق النار وتوجيه القوات العراقية والإيرانية نحو لبنان لدعم الفلسطينيين إلا أن إيران رفضت العرض واعتبرته مناورة من صدام لإنقاذ نفسه في وقت كان الجيش العراقي يتقهقر أما القوات الإيرانية...ورغم أني أعتقد أن موقف إيران كان خاطئا ولو قبلت بوقف إطلاق النار لوفرت على الطرفين الكثير من الضحايا والدمار استمرت ست سنوات أخرى إلا أن صدام  كان يعرف أن سوريا التي وقفت مع إيران في الحرب لا يمكنها أن تسمح للقوات العراقية بالمرور من أراضيها نحو لبنان....

وعندما تفاقمت الأزمة بين سوريا والفلسطينيين إثر تشجيع القيادة السورية الانشقاق داخل حركة فتح تعاطف العراق مع الموقف الفلسطيني وتحول إلى تحالف مع فتح...

ثم جاء احتلال الكويت ليضع القيادة الفلسطينية في وضع صعب إذ بينما رفض ياسر عرقلت أن يدين الاحتلال العراقي وتعرض بسبب ذلك إلى حصار  مالي وسياسي من بقية دول الخليج رفض قادة فلسطينيون آخرون احتلال العراق للكويت ومنهم القائد أبو إياد وكذلك الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (سمعت أنه سوف يحضر قمة بغداد) وقد قام قبل وقت ليس ببعيد بتقديم اعتذار للكويت على موقف المنظمة....

ويقول فلسطينيون عاديون أنهم كانوا في البداية يرفضون الاحتلال العراقي للكويت ولكن بعد الاصطفاف الذي حدث ودخول القوات الأمريكية عل خط الأزمة وحشدها القوات العسكرية في  السعودية وقصفها الجوي على العراق  تغير موقفهم  لأنهم لا يمكن أن يقفوا مع الأمريكيين ضد العراقيين...وبينما كان العراقيون المناهضون لصدام يتوقون أن تنتهي حرب تحرير الكويت بسقوط نظام صدام  واصلت الجماهير العربية ومنها الفلسطينيون تأييدها لصدام من منطلق  العداء للغرب والخليجيين ولم يكن يهمهم أن صدام حسين رجل دكتاتوري ودموي ألحق ضررا كبيرا بالعراق وبالمنطقة العربية عموما بسبب سياسته الرعناء ولم يلتفت الكثير من الفلسطينيين إلى حقيقة  أن سياسة صدام  وحروبه قد ألحقت بقضيتهم ضررا بالغا واضطرتهم إلى المشاركة في المفاوضات العربية الإسرائيلية في مؤتمر مدريد في عام 1991بشروط مجحفة أنتجت اتفاقات غير متوازنة لا يزال الفلسطينيون يعانون منها لليوم...

لقد أنتجت تلك الظروف علاقة شك بين الفلسطينيين والعراقيين إذ اعتبر الفلسطينيون المؤيدون لصدام  موقف معارضي صدام غير وطني من منطلق أن معيار الوطنية (وهو معيار لا يقتصر على الفلسطينيين بل معظم الشعوب العربية) هو العداء للولايات المتحدة  بينما معيار العراقيين ينطلق من اعتبارات داخلية تتعلق بالمعاملة الوحشية لنظام صدام  لكل من يعارضه....

وعندما هاجم الأمريكيون العراق في 2003 وقف معظم  الفلسطينيين وكذلك معظم المواطنين العرب موقفا مؤيدا لصدام ورفضوا النتائج التي ترتبت على سقوط نظام صدام حسين والنظام السياسي الذي نشا عن ذلك واعتبروا جميع القيادات السياسية التي شاركت في العملية السياسية "عملاء" لأمريكا دون التمييز بين القوى السياسية الأصيلة التي ناضلت ضد حكم صدام  طوال عقود والتنظيمات الأخرى التي تشكلت بالمنفى والتي تعتبر حليفة للولايات المتحدة...

إن الذي أخر عملية المراجعة في الوسط الفلسطيني والعربي بشكل عام حيال العملية السياسية التي نشأت  فيما بعد وانتهت بانتخابات حرة  وبدايات جنينية لنشوء نظام جديد قائم على التعددية السياسية والانتخابات الحرة و وتداول السلطة وغيرها من الأسس المثبتة بالدستور العراقي هو وقوف دول الخليج والعديد من الأنظمة العربية (كلها مؤيدة لأمريكا) موقف العداء من التجربة الجديدة في العراق عززه الحملة الإعلامية التي شوهت كل ما يجري في العراق وركزت على الجانب المذهبي  كونه سبب الصراع في العراق غاضة الطرف عن ما كان يقوم به الإرهابيون القادمون من الخارج والذي تحالفوا مع بقايا نظام صدام من جهود للتخريب والتدمير....

ومع تقدم العملية السياسية إلى الأمام ولو ببطء شديد ووسط صراعات لم  تخمد  وبدء الاقتصاد العراقي بالتحرك مدعوما من تصاعد واردات النفط  وأهم من ذلك كله وعي غالبية العرب أن تنظيم القاعدة الإرهابي تقف وراءه المملكة العربية السعودية وقطر وأجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية بدأت عداوتهم للطبقة السياسية الحاكمة في العراق تخف وبدئوا يميزون ما بين القوى المتصارعة واتجاهاتها المختلفة وبدلا من موقف العداء والرفض المطلق للتجربة العراقية حل محلها موقف غير المبالاة (بسبب تعقيد الحالة العراقي) ثم بدأت أوائل تباشير التفهم ومراجعة النفس وإدراك الكارثة التي سببها صدام حسين ونظامه على المنطقة العربية....

تقع على عاتق النظام في العراق وخاصة الدبلوماسية العراقية  إحداث خروقات في جدار سوء الفهم في الوسط العامي العربي غير أن أنه لا يمكن القول أنها حققت نجاحا كبيرا لأن الكثير من الكادر الدبلوماسي يفتقر إلى الموقف  الواضح لما يجري في العراق إذ تجد في السفارات الكردي الذي يدافع عن القيادة الكردية والمؤيد لعلاوي الذي ينتقد حكومة المالكي والمؤيد للصدريين الذي ينتقد تارة هولاء وتارة أولئك  وإلى غير ذلك وبالتالي غاب الخطاب الوطني الموحد الذي يساعد على تقديم صورة متوازنة لما يجري بالعراق...

إن انعقاد القمة العربية في بغداد ووجود بند على جدول أعمالها يتعلق بفلسطين يفرض على الطرفين الفلسطيني والعراقي  فتح صفحة جديدة باتجاه إزالة سوء القهم الذي حصل في الماضي بين الشعبين...إن الطرف الفلسطيني سوف يضل بحاجة للدعم السياسي( وربما المالي بعد تحسن أحوال العراق)  من العراق في المحافل العربية والدولية  في وقت يعاني فيه من ضغوط شديدة نتيجة  الطريق المسدود الذي وصلت إليه العملية السلمية مع إسرائيل....

والعراق هو أيضا بحاجة لفلسطين إذ وهو يتولى قيادة الجامعة العربية  عليه أن يظهر للشعوب العربية أن لا يمكن المزاودة على انتماء العراق للمحيط العربي والإسلامي وأن قضية فلسطين ستظل شأنا عراقيا كما هي شانا عربيا وبذلك يقطع الطريق أمام من يروج لوطنية صدام الزائفة حيال فلسطين..

ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذه العراق إزاء القضية الفلسطينية؟

لقد ولى زمن فرض رؤية محددة على الفلسطينيين كما فعل صدام حسين في فترة ما واستغل القضية الفلسطينية كأحد موضوعات الصراع مع بقية الأنظمة العربية كنظام جمال عبد الناصر والنظام السوري مما ألحق ضررا بالنظام العربي كما وأن حل الصراع بالطرق العسكرية قد ثبت عدم جدواه وتخلت عنه الدول العربية وكذلك الفلسطينيون ولذلك على العراق أن يعلن قبوله بالصيغة العربية التي أقرتها قمة بيروت في عام 2000 والتي  تقضي باستعداد الدول العربية للاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها إذا ما قبلت بقيام الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة على  الجزء الذي احتلته من فلسطين في حرب حزيران 1967 ووافقت على حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وهي صيغة قبل بها الفلسطينيون وعملوا على الوصول غليها من خلال المفاوضات...

ونتوقع من الفلسطينيين أن يدركوا  بعد التجربة الطويلة والأليمة التي مروا بها  أن تحقيق الأهداف الفلسطينية بات يمر عبر إشاعة الديمقراطية في البلدان العربية وليس من خلال عسكرة هذه المجتمعات وأن العراق كان من أوائل الدول التي اختطت هذا الطريق وسط محاولات محمومة لإجهاض التجربة  من طرف أعداء العراق وفلسطين...

محمود عباس في العراق وحان وقت عودة الفلسطينيين والعراقيين إلى بعضهم البعض، العراق من موقع المدافع عن قضايا الشعوب العادلة والفلسطينيين من موقف الحاجة لسند في زمن قل فيه الأصدقاء....

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2073 الاربعاء 28 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم