أقلام حرة

وأخيراً صح الصحيح / صالح الطائي

وتأملته وهو يتحدث بتعقل ورزانة قل مثيلها فأعجبت به، ثم التقيت به مرة أخرى على صفحات إحدى الجرائد العراقية في عام 2004 وهو يهدد ويتوعد ويطالب بوجوب رفع الآذان الشيعي من شبكة الإعلام العراقي/ الفضائية العراقية لأنه حسب زعمه آذان غير شرعي ولا يجوز أن يكون دعوة لإقامة صلاة المسلمين لمخالفته صيغة الآذان الشرعي ولدلالته الطائفية وغيرها من التهم التي كالها الرجل لآذاننا جزافا، فتعجبت كيف يمكن للإنسان هذا الكائن الغريب أن يكون قادرا على التلون بهذا الشكل الحربائي المدهش الذي تعجز عن الإتيان بمثله أذكى الحيوانات التمويهية في الكون حتى ولو كان أستاذا في الشريعة ومرجعا في الفقه.

بعدها سمعت عن إسهامه الكبير في تأسيس ما يعرف بـ(هيئة علماء المسلمين) ذلك الاسم الاستفزازي المفعم بالطائفية والإقصاء، فتأكد لي أن الرجل اندفع بكل قواه في المشروع الطائفي المقيت، وان إصلاحه وإعادته إلى جادة الصواب بات أمرا مستحيلا أو شبه مستحيل.

ثم وردتنا أنباء تركه للهيئة بعد أن تأكد له انحرافها عن النهج الديني والوطني القويم ودخولها في خط المهاترات الطائفية الهجمات الإرهابية ضد العراقيين، ووردتنا أخبار سفره إلى الخليج لينأى بنفسه عن الصراع الطائفي، فبدا لنا أن أمر الرجل بات محيرا وغريبا.

في الخليج وعبر القنوات الفضائية وشبكة الانترنيت كنت أتابع تصريحاته وفتاواه فأجد فيها الغث والسمين، ولكن بالتأكيد كان سمينها أكثر من غثها، وكانت بعيدة عن منهج الطائفية الطاغي على الإفتائيين العراقيين المقيمين مثل طه حامد الدليمي والعرب مثل يوسف القرضاوي والخليجيين مثل العريفي والعبيكان، فكنت أتمنى لهذا الرجل العالم العامل أن يدرك الحقيقة ويبتعد عن مهاترات المشاريع التخريبية القذرة التي يريدون سوقه إليها، وأن يوجه علمه لخدمة الدين من خلال العمل على لم شمل العراقيين بعيدا عن سياسة الذبح والتهجير والطائفية والإقصاء، ولاسيما وأنه رغم إخلاصه للبلد الذي كان يعيش فيه وتقديمه الخدمات الجليلة لهم لم يكن بنظرهم مواطنا حتى من الدرجة العاشرة، ولكنه لسماحة أخلاقه، ولكي لا يلوث يده بالدم العراقي البريء كان يتحمل هذه المعاناة على مضض عسى أن تسنح له الفرصة ليعود إلى مهده وأهله وبلده، وفي هذا الصدد أتذكر أني كنت أشاهد لقاء جمع الدكتور الكبيسي وأحد (السخول) الخليجيين للحديث عن قيادة النساء للسيارات وكان رأي الدكتور أن من الفضل والأستر للفتاة أن تتعلم قيادة السيارة وتقودها من أن تترك مع سائق غريب يدور بها في طرقات البلد لقضاء مشاويرها ولا يعلم ما قد يحدث بينهما إلا الله، فانزعج (السخل) الخليجي من قول الدكتور وخاطبه بخشونة قل نظيرها قائلا: أسمع يا احمد أنت لست من أهل البلد ولا يحق لك أن تطرح مثل هذه الأفكار الهدامة!

تأملت حينها وجهه الطيب وهو يتفصد عرقا وظلال غيمة قاتمة من الحزن تلف محياه والكثير من الخجل يثقل كاهله، ولكنه صبر، صبر لأنه لم يكن يملك خيارا آخر وألا ما وزن هذا السخل الأسود قبالة علمه وفضله!

بعد هذا التاريخ كانت هناك ثمة مؤشرات أبانت وكأنه يعيش مرحلة صراع فكري عميق، وأن في الأفق قنابل ممكن أن يفجرها لا ليقتل الناس مثل غيره من العلماء التافهين ووعاظ السلاطين والإفتائيين التكفيريين وإنما لتحدث عندهم عصفا ذهنيا يدفعهم للبراءة من الأعمال الإجرامية والسعي إلى الوحدة الوطنية.

والظاهر أن إناء صبر الدكتور الكبيسي امتلأ ولم يعد قادرا على استيعاب المزيد فقرر أن يبحث عما يعري سياسات وثقافات هؤلاء الأعراب الأجلاف الذين لم ينفع معهم نصحه وإرشاده ووعظه لأن سلطان دولارتهم وشيطان شهواتهم أقوى من أن يسمح للخير أن يصلحهم بالمنطق والقول الحسن، وفي سعيه لمعرفة أبعاد منطقة الرعب التي كان محصورا فيها أدرك أن تدين هؤلاء وثقافتهم وسلوكياتهم نابعة من طباعهم الخبيثة، وان هناك في الحياة ما يستحق التأمل أكثر من قضاء العمر دون طائل مع همج رعاع. فمن غير المعقول أن يؤمن الدكتور بالرأي الذي يؤمن به راعي الإبل المشغول بالسكر والحريم والمكر، ولاسيما إذا ما كان الرأي في المسائل الحساسة مثل مسألة (سيدنا الباغي معاوية رضي الله عنه) أجتهد وقاتل وقتل (سيدنا الإمام علي رضي الله عنه) وله حسنة واحدة جراء الخطأ والتسبب بقتل مئات الصحابة الكرام وآلاف التابعين الأفاضل وتوهين الإسلام وزرع الفرقة بين مكوناته.

ولأنه عربي عراقي وطني، ورجل عالم وذكي أبى أن تمر لحظة الوعي التي أدركها بعد طول عناء مرور الكرام فوقف وقفة الأسد الرافديني الهصور ليعلن من على قناة دبي أن الحق حق والباطل باطل وأننا يجب أن نترك تلك الآراء السمجة القبيحة التي ورثناها عن أجدادنا لا عن ديننا وعقيدتنا وقد آن للأمة المسلمة أن تعرف أن منهج علي بن أبي طالب عليه السلام هو الحق ومنهج معاوية هو الباطل ولذا يتوجب عليها أن تسير على نهج علي وتسأل الله أن يحشرها مع علي، وتترك نهج معاوية وتسأل الله أن لا يحشرها معه.

هذا الموقف الصريح وضع الدكتور الكبيسي في مرمى سهام الحاقدين والطائفيين والسلفيين فوظفوا الفيسبوك وتويتر والقنوات المسمومة الصفراء والسلطة للطعن به وبأعلميته وفضيلته ثم التلويح أمامه بالطرد وكأنهم سيخرجونه من الجنة ويرسلونه إلى الجحيم.

وقاموا فعلا بوقف بث برنامجه الشهير (وأخر متشابهات) حيث أكد سلطان المنصوري، المدير بحكومة دبي أن حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وجه بإيقاف برنامج الكبيسي، وأصدرت مؤسسة دبي للإعلام بيانًا تبرأت فيه من آراء الكبيسي، وأكدت أن "ما ورد على لسان الداعية الشيخ أحمد الكبيسي وتهجمه على بعض الصحابة ضمن برنامج (وأخر متشابهات) على قناة دبي يعكس وجهة نظره الشخصية وقناعته الذاتية، ولا يعبر عن رأي المؤسسة أو موقفها تجاه ذلك الشأن"

 

وأنا من هذا المنبر أطلب من السيد رئيس الوزراء العراقي أن يرسل طائرة إلى دبي لنقل الدكتور الكبيسي سالما غانما مكرما إلى بلده وأهله وان توفر له الحكومة العراقية السكن اللائق والحماية التي يحتاجها وتتكفل بكافة مصاريفه وان تقوم بطباعه الكتب التي سيقوم بتأليفها عن تجربته الخليجية القاسية ومرحلة الوعي الكبير التي مر بها وان تتيح له حرية الحركة ليسهم في بناء صرح العراق الجديد وفق أسس التكافل والتعايش والوحدة والأمن والسلام، فالعراق اليوم بأمس الحاجة لمن هم مثل الدكتور الكبيسي أكثر من أي وقت آخر.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد 2084 : الاحد 8 / 04 / 2012 )

 

في المثقف اليوم