أقلام حرة

قبلَ عشرين سنة .. واليوم / امين يونس

وهذه النسبة كانتْ قياسية رُبما على مُستوى العراق كله . ومن المعلوم انه حدثتْ الإنتفاضة الجبارة في آذار 1991، وقامتْ حكومة بغداد، على أثر إستحداث الامم المتحدة للمنطقة الآمنة، بِسحبْ إدارتها من أقليم كردستان، وفَرض حِصارٍ إقتصادي قاسي على الأقليم .. من أجل إجهاض هذه التجربة الوليدة في مهدِها . كانتْ سلطة الأحزاب الكردستانية، حديثة العَهد بالإدارة ولا تمتلك خبرة مُناسبة ولا تمتلك أيضاً الموارد الكافية لتلبية المتطلبات الضرورية ولا سيما المواد الغذائية ... غير ان رَد الفعل الشعبي الطبيعي، على الحِصار المُزدَوَج المفروض على الأقليم الحاصل تواً على إدارةٍ ذاتية واسعة .. رَد الفعل كان رائعاً وسريعاً وفعالاً، ولا علاقة له بتوجيهات او اوامر سلطوية .. بل كان إستجابة عفوية، غايتها توفير الضروريات الأساسية من أجل البقاء .

عشرات آلاف الأفدنة زُرِعت بالحنطة والشعير، وإنتشرت حقول الرُز والحمص والسمسم وكُل محصولٍ ملائم لطبيعة المنطقة، ناهيك عن الفواكه بانواعها والخضروات والجوز واللوز ..الخ، إضافةً الى تنامي الثروة الحيوانية وإنتاج اللحوم والبيض والألبان ومشتقاتها والاسماك ...الخ . كانتْ الظروف الإقتصادية صعبة للغاية والرواتب قليلة والكهرباء شحيحة وإمكانية الإستيراد ضئيلة.. لكن سواعد الفلاحين والعُمال .. أنتجتْ كميات مُحتَرمة من المواد الغذائية المهمة .. ورغم بعض النواقص وسوء الإدارة وبوادر الفساد الاولى .. إلا ان الجماهير، إستطاعتْ تجاوز هذه المرحلة الصعبة، بجهودها الذاتية الى حدٍ ما، بالمُحاولات الجادة والمُثمِرة في " إنتاج " ما تأكله ! . صحيح لم يكن التوزيع مثالياً، ولا الإنتاج يُلّبي جميع المتطلبات .. لكن لولا قيام الكادحين، بزراعة هذه المساحات الشاسعة في تلك الفترة .. لحدثت كوارث ومجاعات وأزمة إنسانية كبيرة .

كانتْ تجربة زراعة معظم الأراضي الصالحة وكذلك إستصلاح البعض الآخر، في تلك السنوات القليلة .. فريدة من نوعها .. ودليل على خصوبة أرضنا ووفرة مياهنا وروعة شمسنا وهواءنا .. والاهَم من ذلك كله، قُدرة سواعدنا الكادحة على العمل المُثمِر و[الإنتاج] .. وبالتالي، ما يُوّلِده الإنتاج من ثِقةٍ بالنفس، وتَحّمُل المسؤولية، والإعتداد والإحترام !.

لكن .. للأسف سُرعان ما تصاعَدَ فساد السُلطة وأرتفعتْ وتائره، بالتزامن مع تثبيت مواقع الحِزبَين الحاكمَين وتفرُدهما، وحصولهما على مبالغ طائلة من المنافذ الحدودية وإدارة أموال النفط مُقابل الغذاء وغياب أي رقابة أو مُحاسَبة .. ثم صراعهما المريرالذي أدى تدريجياً، الى تجنيد المزيد من الانصار والمُوالين كُلٌ الى جانبه... ومن الطبيعي، ان معظم هؤلاء المؤيدين تركوا حقولهم ومزارعهم وورشهم .. بعد حصولهم على " رواتب " وإمتيازات من الحزبَين .. وتفاقمتْ هذه الظاهرة بعد 2003، وتعاظُم الموارد .. هذه الموارد الكبيرة، التي إستخدَمَتْ السُلطة، جُزءاً مُهما منها، أسوأ إستخدام ... من خلال توزيعها على شكل [رواتب] تحت مُختلف التسميات، بحيث ان نسبة عالية جداً، من المواطنين القادرين على العمل والإنتاج الفعلي .. أصبحوا موظفين غير مُنتجين ومتقاعدين، يستلمون رواتب .. وهذا الأمر، بالتماهي مع لجوء الحكومات المتعاقبة، الى سياسة الإستيراد المفتوح، في كُل شئ .. أدى، الى تراجُع عجلة الإنتاج الزراعي الى أدنى مُستوياتها .. بحيث بُتنا نعتمد إعتماداً شُبه كُلي، على إستيراد غذاءنا .. وأصبحنا مجتمعا " مُستهلِكاً " بإمتياز .. مع ما يَجُرَه النَمَط الإستهلاكي، من امراض إجتماعية وثقافية وإقتصادية .. وبالتالي سياسية .. بالغة الخطورة !.

 

................................

قبل عشرين سنة، كان 86% من أراضينا مزروعة ومُنتجة .. وكان الناس بصورةٍ عامة، في إعتقادي، أكثر إحتراماً لأنفسهم بإعتبارهم مُنتجين .. وأكثر إمكانية للحفاظ على إستقلاليتهم .. أرى انه اليوم .. وبعد التراجُع الكبير في العمل المُنتِج وفي الأرض المزروعة .. ورغم مظاهِر البحبوحة الخادعة .. فان الكثير مِنّا .. أصبحَ ضحل الثقافة ومُبتذلاً !!.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2085 الأثنين 09 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم