أقلام حرة

نوري المالكي وعبد الكريم قاسم بين زمنين / وليد العبيدي

وقائد ثورة 14 تموز عبد الكريم قاسم. ومهما دار في ذهن من قام بهذه المقارنة فإنها من وجهة نظري مقارنة مجازية فيما يتعلق بالخصال الشخصية لكل منهما ولكنها ذات بعد أوسع ومهمة لجهة دراسة التجربة التي مر بها العراق في ذلك الظرف التاريخي الحساس من أجل استخلاص الدروس التي يمكن توظيفها لفهم جدلية الصراع الدائر حاليا ومكامن التشابه والاختلاف بين الحالتين لتساعدنا ما أمكن في تجنب انتكاسة التجربة مرة أخرى.

وسأحاول التركيز على جانب واحد من المقارنة يتعلق بطبيعة الاصطفافات الجارية وطبيعة القوى التي تقف في مواجهة بعضها البعض. وتزداد أهمية استذكار تجربة حكم عبد الكريم قاسم عندما نتذكر أن النفوذ البريطاني والأمريكي قد لعب في تلك الفترة ويلعب الآن (البريطاني أقل) دورا مهما في التأثير على مسيرة الحياة السياسية وما يتبع هذه المسيرة، نجاحا أو فشلا، من نتائج. والفرق هنا برأيي أن الدور الأمريكي والبريطاني كان مباشرا في تلك الفترة من خلال وجود موظفيهم الكبار الذين يحتفظون بصلات واسعة مع الطبقة السياسية الحاكمة والمؤثرة ويتلقون رجالاتها جهارا أما اليوم فإن الدور أكثر خفاء في الداخل وغير مباشر من الخارج ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يتصور أن السعودية أو قطر كانت ستضع رأسها برأس العراق لولا هامش الحركة، الذي يضيق أحيانا  ويتسع أخرى، الذي تسمح به الولايات المتحدة الأمريكية لهما.....وبالنسبة لقطر، أعتقد أن الدور الذي تلعبه مستوحى من الدعم الذي تحظى به لدى صناع القرار الأمريكيين المؤيدين لإسرائيل...

 

ومن وجهة نظري أن النظام السياسي الذي يتطلع الأمريكيون إلى بناءه في العراق يريدونه أن يكون استمرارا للنظام السياسي الذي أسس له البريطانيون عشية منحهم الاستقلال السياسي الشكلي للعراق في بداية عشرينات القرن المنصرم...لقد كان ذلك النظام يقوم على أساس تحالف (هش) بين مجموعة كبار الضباط الذين خدموا الدولة العثمانية ثم انتقلوا لخدمة السلطة البريطانية في العراق والعائلات الإقطاعية والعائلات التجارية الكبيرة. و لم يمنع ذلك أن يكون للعديد من هؤلاء مشاعر وطنية معادية للاستعمار البريطاني وقد اعتمد هؤلاء (أو البريطانيين) في حكم العراق على نظام برلماني يقوم على انتخابات حرة نسبيا لبرلمان طالما سيطر عليه ممثلو التحالف الذي ذكرت...

 

في مقابل هذا التحالف كانت هناك الجماهير العريضة من فلاحين وعمال وكسبة وموظفين صغار ومتوسطين وأصحاب المهن والحرف الصغيرة والمتوسطة والذين لم يكن يروق لهم  الحكم البريطاني ولكنهم لم يكونوا، بشكل  عام، يحملون مشاعر العداء للعرش الهاشمي بقدر عدائهم لأزلام بريطانيا في النظام السياسي. وسط هؤلاء كانت الأحزاب الوطنية واليسارية المعادية لبريطانيا تجد من يصغي إليها....

لقد وجدت ثورة 14 تموز 1958 تأييدا واسعا قي صفوف  الطبقات الشعبية  وزاد هذا التأييد  إقدام نظام عبد الكريم قاسم على تحولات مهمة مثل الحد من ملكية الإقطاعيين وتوزيع ما صودر منهم على الفلاحين الفقراء وحصر امتياز شركات البترول بالمناطق التي تقوم بعمليات استخراج النفط فيها وتجريدها من حق التنقيب والاستخراج قي بقية مناطق العراق إلى جانب العديد من  الإجراءات التي جاءت لصالح الفقراء. وينتقد الكثير من المراقبين نظام عبد الكريم قاسم انه لم يضع  دستورا دائما للبلاد  يؤسس لنظام سياسي مدني يعوض حكم العسكر يقوم على الانتخاب الحر وبعضهم يعتبر ذلك أهم سبب لانتكاس تجربة النظام الجمهوري و ذهب البعض الآخر إلى حد اعتبار ثورة 14 تموز بداية الدكتاتورية وأن النظام الملكي لو ترك يتطور لأنتج نموذجا أفضل مما رأيناه في السنوات التي تلت الثورة...ولست هنا بصدد مناقشة هذا الرأي ولكني أعتقد أن الكثير ممن يحملون هذه النظرة هم أصحاب نوايا طيبة ولكن مرارة التجربة البعثية التي تكررت مرتين في 1963 و 1968 وما جرته من ويلات على العراق قد تركت أثرا غير قليل على خروجهم بهذا التقييم...

لقد أدت ثورة 14 تموز إلى القضاء على مجموعة الضباط الملكيين الكبار وعلى القضاء على الأساس الاقتصادي الذي كانت تستند إليه العوائل الإقطاعية وأقصت ممثلي فئة التجار عن التأثير وسمحت لبداية نشوء طبقة بورجوازية صناعية. و قد بقى ورثة العائلات الإقطاعية وكبار التجار وخدم البريطانيين والعثمانيين الذين فقدوا نفوذهم في الظل و انتقل قسم منهم للعيش في بريطانيا وقد حاولت بريطانيا في السنوات التي سبقت الهجوم على العراق في 2003 لم شتاتهم ودشنت من خلال الصحف العربية الصادرة في لندن حملة لإعادة تأهيل الحكم الملكي وورثة  ذلك الحكم ورجاله وأشركت بعضهم في مجلس الحكم ودفعت بهم للمشاركة في أول انتخابات برلمانية في 2005 من أمثال عدنان الباججي والشريف على بن الحسين وغيرهم ودعمتهم بممثلي العائلات التي خدمت البريطانيين من أمثال عائلة الدملوجي ممثلة بالسيدة ميسون...وإذا نظرنا إلى هؤلاء مضافا إليهم السيد علاوي كممثل للعائلات التجارية القديمة (وكذلك  أحمد الجلبي لكنه سارع إلى تغيير تحالفاته) وأسامة النجيفي كوريث لعائلة مالكة ثرية كانت في خدمة السلطة العثمانية (هناك أخبار عن استحواذ عائلة النجيفي على أراضي واسعة في الموصل والدخول في مشاريع مع الشركات التركية) ومسعود البارزاني كممثل للإقطاع الكردي القديم  وطارق الهاشمي كممثل لفئة الضباط القدماء الذين خدموا السلطة العثمانية ثم البريطانية (طه الهاشمي وياسين الهاشمي) وأضفنا إليهم السيد عمار الحكيم  كممثل لطبقة رجال الدين الأثرياء نجد أن هؤلاء يزدادون اقترابا من بعضهم كلما سارت التطورات في اتجاه لا يعبر عن مصالحهم الجديدة وربما سيشكلون في يوم ليس ببعيد تحالفا يعيد الصورة القديمة للتحالفات عشية انقلاب البعث في 1963 مع اختلاف يتمثل بكون حزب البعث هو أداة الانقلاب في ذلك التاريخ....

 

 

لا شك أن الفرق الجوهري بين حكم عبد الكريم قاسم والحكم الحالي هو أن الأخير قد قام على الانتخاب الحر المباشر ضمن إطار نظام دستوري ارتضته جميع الأطراف كأساس للعلاقة بينها غير أن تطور العملية الديمقراطية لم ترق للعديد من هذه الأطراف عندما أحست أنها لا تسير بالاتجاه الذي يحافظ على مصالح ثابتة لها في المعادلة السياسية فبدأت بالاحتشاد ضمن إطار اصطفاف غير رسمي وغير معلن ولكنه واضح وهذه المرة ليس من خارج السلطة بل من داخلها بحكم المشاركة. من الجانب الآخر، يزداد الاستقطاب قي صفوف الجماهير بين من يؤيد رأس السلطة التنفيذية وائتلافه ومن يؤيد الأطراف الأخرى آخذين بنظر الاعتبار أن الكثير من الجماهير التي باتت تعي طبيعة الصراع تزداد اقترابا من ممثل رأس السلطة وهو ما بات يضفي المزيد من المخاوف وسط الأطراف الأخرى التي بدأت تحس بتراجع تأثيرها الجماهيري مما يهدد بتقويض نفوذها خلا المرحلة القادمة...

في بداية العملية السياسية التي انطلقت مع أول انتخابات في 2005 كانت جميع القوى السياسية على وجه التقريب تقف على قدم المساواة في نظر الناخب العراقي لذلك كان اختيار الناخبين يكتسب طابع المراهنة أو مبني على تصور قديم لم يأخذ بنظر الاعتبار التبدل الذي طرأ على سلوك وأفكار القيادات السياسية بفعل المنفى كما وأن الأحزاب السياسية لم تكن على اطلاع تام على ما جرى من تغير في أفكار ومفاهيم الجيل الجديد من الشباب. غير أن تجربة الصراع خلال السنوات العشر الماضية قد امتحنت القوى السياسية المختلفة وبينت كم كان سلوكها العملي متطابقا مع الشعارات التي رفعتها. ومهما تحدثنا عن تقصير حكومة المالكي لكن يبقى أنه وائتلافه حافظوا على سياسة واضحة وثابتة إزاء القضايا الوطنية الكبرى ولم يكن خطابه متناقضا مع أفعاله عكس الكثير من القوى السياسية التي أثبتت التجربة، من خلال سلوكها في البرلمان،  أنها لم تكن أمينة على الشعارات التي كانت تنادي بها وقد تبين ذلك جليا من موقفهم من الملفات الكبرى مثل فساد مفوضية الانتخابات وقضية الانسحاب الأمريكي والميزانية وقانون النفط والغاز والعديد من المشاريع التي قدمتها الحكومة للبرلمان لإقرارها والتي بقيت في أدراج رئيس مجلس النواب وليس آخرها قضية الهاشمي التي أصبحت بالنسبة للبعض موضوعا للمساومة السياسية على حساب الدستور والقانون وحقوق الضحايا...ولم تستطع هذه القوى أن تقدم للجماهير أي تفسير مقبول لسلوكها ذاك وأثبتت أن مصالحها الحزبية الضيقة فوق الاعتبارات الوطنية...

إن الأزمة الداخلية التي عاشتها هذه الأطراف منفردة قد جعلها تلتقي على هدف واحد هو إفشال الحكومة  من أجل التخلص من أزمتها الداخلية الناتجة  بالدرجة الأولى عن فقدانها المصداقية في أعين الجماهير ولسان حالها يقول: "لقد فشلنا فيجب أن يفشل الآخر"...

 

.

 وقد عبر تصريح السيدة ميسون الدملوجي حول إسقاط حكومة المالكي من خلال "إجماع وطني" وليس من خلال مجلس النواب عن ذروة الأزمة لدى هذه الأطراف واضطراب الخطاب. وبالطبع قصدت السيدة ميسون بالإجماع الوطني هو اتفاق رؤساء الكتل السياسية كعامل مقرر وليس البرلمان والأصول الدستورية والسؤال هنا: إذا كانت الكتل السياسية جميعها متفقة على إسقاط حكومة المالكي فلماذا لا يلجئون إلى مجلس النواب لطرح تصويت بعدم الثقة كما هو متبع في الديمقراطيات المعروفة؟ إن ميسون الدملوجي قد تحدثت  وفي ذهنها تجربة الجعفري التي مثلت بالنسبة لها سابقة يمكن أن تتكرر ناسية أن إسقاط حكومة المالكي سوف لن يفتح الطريق أما تشكيل حكومة جديدة من دون ائتلاف دولة القانون في ظل الاصطفاف الذي حصل من الجهة المعاكسة والذي نتج عن تشرذم جميع الكتل الكبيرة باستثناء كتلة ائتلاف دولة القانون والتيار الصدري. أما اللجوء إلى انتخابات مبكرة فهو شعار لا أكثر ذلك أن البوصلة تشير إلى مزيد من تعزز موقع ائتلاف دولة القانون على المستوى الجماهيري...

وقبل ذلك راهنت هذه القوى على تحريض الشارع العراقي تحت شعارات الخدمات والبطالة والفساد ظنا منها أن هذا التحرك سوف يتوسع ليشكل عامل ضغط لصالحها تستطيع استغلاله لطرح مسألة إسقاط الحكومة غير أن انفضاح نواياها اسقط رهانها ولم يسقط حكومة المالكي وأدى في نهاية الأمر إلى ازدياد عزلتها وفقدها المزيد من المصداقية.

 

أما الزوبعة التي أثارها مسعود البارزاني فهي تثير الكثير من التساؤل. فهو يعرف حق المعرفة أنه لا الأخلاق و لا الدستور ولا أي قانون يسمح له بإيواء متهم بالإرهاب ورجل من بقايا البعث سبق وأن وقف مواقف معادية للأكراد منها اعتراضه على ترشيح السيد طالباني لرئاسة الجمهورية. وكان هدف السيد مسعود من ذلك هو فتح معركة مع المركز يعتقد أنها وسيلة ناجحة لإثارة خوف مفتعل في وسط الشعب الكردي من المركز فيصطفون وراءه متناسين استحواذ العائلة البارزانية على المناصب والثروات وبذلك ينقل معركته من الداخل إلى الخارج. غير أن الألاعيب لها مفعول زمني محدود سرعان ما ينتهي فيجد اللاعب نفسه مجددا أمام الحقيقة التي حاول الهروب منها وأن عليه هذه المرة أن يدفع الثمن مضاعفا...

هذا الاصطفاف بين القوى الذي ذكرت ضد حكومة المالكي والذي يتبع أساليب لا تمت بصلة بأصول التقاليد الديمقراطية المعروفة أصبح يمثل أكبر خطر يتهدد مسيرة التجربة الديمقراطية وينبأ بانقلاب عليها حين تحين الفرصة من خلال استبدال العمل بالدستور بالعمل وفق نظام التوافقات (شيلني واشيلك حسب التعبير الشامي) وهو انقلاب سوف يحظى بدعم السعودية وقطر وكذلك الإدارة الأمريكية أو الجزء الأقوى منها. لذلك لابد، تحسبا للمستقبل الذي قد يحمل مفاجئات، من رسم صورة واقعية لاصطفاف في مواجهته يضم الأطراف التالية: ائتلاف دولة القانون، التيار الصدري أو الجزء الديمقراطي منه (على افتراض أن التيار قد يتعرض لاستقطابات قي داخله وهذا محتمل في حالة اشتداد الصراع) حركة التغيير الكردستانية بزعامة نوشيروان مصطفى وربما الحزبين الكرديين الإسلاميين أو احدهما، القوى والشخصيات التي خرجت عن القائمة العراقية وخاصة العراقية البيضاء بشقيها وكذلك القوى التي صارت تطهر استياءها من تصرفات السيد عمار الحكيم وأي شخصيات سياسية أخرى ذات وزن تبدي استعدادا لدعم هذا الاصطفاف. إن اصطفافا كهذا  سوف يحظى بدعم جماهيري واسع يكسر حاجز القومية والمذهبية ويرسل رسالة واضحة للشعب من أن الذي يتعرض للتهديد ليس المالكي أو حكومته بل كامل التجربة الديمقراطية مما يتطلب ليس الحيطة والحذر وحسب بل واستعدادا جماهيريا  للدفاع  عن التجربة ضد من يخطط لإفشالها وبذلك نمنع تكرار تجربة انقلاب شباط 1963 البعثي ضد عبد الكريم قاسم الذي يختلف عن الانقلاب الذي أتحدث عنه شكلا ولكنه يشترك معه بالكثير .

 

وقد يرى البعض أن في ذلك دعوة مني لفك عرى التحالف الوطني في ظرف حساسا كهذا وهو استنتاج متعجل لأني أدرك أن ائتلاف دولة القانون سوف يظل يراهن على هذا التحالف ما دام ذلك ممكنا ولكن عليه التحسب للمستقبل في ضوء ما يراه من حراك في مختلف الاتجاهات يتطلب الرصد، كما وقد يرى البعض الآخر أن الحديث عن خروج حركة التغيير الكردستانية عن "الإجماع الكردي" غير واقعي فأرد بالقول أن ما ينطبق على الواقع السياسي في كردستان ينطبق على الواقع في بقية العراق فكما نرى السيد عمار يذهب إلى كردستان للقاء السيد مسعود "نكاية" بالمالكي فقد يفعل أي زعيم سياسي كردستاني يعارض نهج السيد مسعود مثله...أملا الحديث عن "التحالف بين المظلومين" أي التحالف الوطني والتحالف الكردستاني فلا أظن أن السيد مسعود قد أبقى منه شيئا فتهديداته بالانفصال لم نر مثلها في زمن صدام و مزاجه أصبح أميل إلى البعثيين منه إلى الشيعة...

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2091 الأحد  15 / 04 / 2012)

 

في المثقف اليوم