أقلام حرة

مأزق الديمقراطية أم مأزق الثقافة العراقية؟ / وليد العبيدي

الذي يرتكب جريمة سرقة أو هروب من الجيش أو غيرها من "الجرائم" كتب وقتها رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية طلال سلمان افتتاحية تساءل فيها متعجبا إن كان ذلك يحدث في العراق، البلد الذي كتبت فيه أول قوانين في تاريخ البشرية.

 

لقد عرف العراق  بقوانين  (شريعة) حمورابي الشهيرة (1792-1750 ق.م) غير أنه سبقت قوانين حمورابي قوانين أخرى كقانون أور نمو (2111 قبل الميلاد)  وقانون لبث عشتار وقانون اشنونا  ( فوزري رشيد: الشرائع العراقية القديمة)....

 

ظل العراق منذ" خراب بابل" وحتى نهاية حكم البعث في 2003  تحكمه  قوانين الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه والذي قال للإعرابي الذي أتي إلى المدينة غير عارف بأن زياد قد فرض منع التجول تحت طائلة القتل لمن يخرقه بعد أن توسل إليه الإعرابي أنه لم يكن يعرف قال له: "صدقت ولكن في قتلك صلاح الأمة"...

و"صلاح الأمة" في عرف زياد بن أبيه كان أن تخاف الأمة الحاكم و لا تتحدى ما يقرره مهما كان ظالما  وفي زمن البعث أضيف لتحريم تحدي الحاكم تحريم آخر وهو الجدل فيما يقوله السيد النائب والذي أصبح فيما بعد "القائد الضرورة"....ويتذكر من هو من جيلنا ما حدث  في أوائل السبعينات عندما تجرأ أستاذ الاقتصاد  في إحدى الكليات وناقش  واحدة من  مقولات "الضرورة"، والمنقولة بتحريف من الأدبيات الماركسية، عندما قال في إحدى "تجلياته الفكرية": "من لا ينتج لا يأكل" فكان تعليق الأستاذ في حضرة تلاميذه  أن هناك بعض الأعمال التي يقوم بها البشر لا ترتبط بصلة مباشرة بالإنتاج كالعمل في قطاع الخدمات ومنها التعليم والأصح القول : "من لا يعمل لا يأكل" فقام أحد الطلبة المنتمين للاتحاد الوطني بنقل ما قاله أستاذ الاقتصاد للمنظمة الحزبية التي أوصلت الخبر للسيد النائب فقام باستدعاء أستاذ الجامعة والذي اختفى خبره لا أدري إن كان غادر العراق بعدها أم قتل في أقبية جهاز أمن صدام....

قبل 2003 لم يكن العراقيون الذين اكتووا بنار البعث يمتلكون ترف التفكير في شكل النظام السياسي الذي سوف يخلف نظام صدام بقدر ما كانوا يفكرون بيوم الفرج الذي سيزيل عنهم غمة 35 سنة من حكم مجموعة من الجهلة أعادت العراق قرنا إلى الوراء لأنه في نظرهم لن يكون هناك أسوأ من حكم البعث وصدام وأرى أنهم كانوا محقين.

 

بعد 2003 كان  يفترض أن تكون فاتحة القطيعة مع حكم  الحجاج بن يوسف وصدام بن حسين بالنسبة للعراقيين عملية كتابة الدستور التي تكللت بالنجاح رغم المصاعب الجمة واستفتي الشعب لأول مرة على دستور وضعه ممثلو مجلس تأسيسي اختيروا في انتخابات حرة مباشرة. بكلمة أخرى وضع العراق أولى خطواته الثابتة باتجاه تأسيس عراق جديد يقوم على سلطة القانون والدستور وسط موجة شعواء من التوتر والتحريض الطائفي  بلغت ذروتها بعد تشكيل أول وزارة وفق الدستور  و ترجمت نفسها بحرب معلنة من طرف تحالف بقايا البعث والقاعدة والسعودية وبموافقة ضمنية من معظم الأنظمة العربية التي أطلقت العنان للمتطرفين الإسلاميين ليذهبوا للعراق "ليقاتلوا  المحتل الأمريكي" وهو الذي يحتل هذه الدول وهو جالس في واشنطن دون أن يكون له حاجة لنشر مئات الألوف من الجنود وتكفيه مكالمة هاتفية من أدنى مسئول  لترتعد فرائض أكبر مسئول عربي...

لقد اشر كتابة الدستور ثم الاستفتاء الشعبي عليه ومن ثم إجراء انتخابات حرة بداية الأمل بالقطيعة مع الماضي الطويل من التسلط وحكم العائلة والعشيرة باسم الشرعية الدينية زمنا وباسم الشرعية الثورية زمنا آخر و" شرعيات" أخرى غيرها وظننا أن ذلك المنعطف سوف يمثل البداية ليس لنظام سياسي جديد وحسب بل ولثقافة جديدة قائمة على احترام الآخر و احترام الإرادة الشعبية وما تختاره وكذلك احترام أصول اللعبة الديمقراطية.

 

 ويمثل الانصياع للدولة (القبول أو ما يسميه ابن خلدون "التسليم") العنصر الأول في عملية الاستقرار والاستقرار هو الشرط الأول للقيام بأي مشروع للبناء. وقد أدى الانصياع إلى النظام السياسي القائم إلى تمكين الكثير من الشعوب من القيام بمنجزات كبيرة على طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي..لم تكن كوريا الجنوبية تحكم وفق متطلبات الديمقراطية الغربية حتى بداية السبعينات ولم يبدأ النظام السياسي  هناك بالانفتاح على قوى الداخل إلا بعد أن حقق الاقتصاد الكوري تطورا كبيرا في طريق الاندماج بالاقتصاد الرأسمالي العالمي ثم ليتبوأ مركزا مهما فيه. و لا يمكن تصور ان الصين كان بإمكانها أن تحرز من التطور خلال بضعة عقود ما احتاجه الغرب إلى قرون لولا انصياع الغالبية الساحقة من الشعب الصيني لقيادته. و ليس المقصود هنا القول أن الانصياع أو الخضوع هو سمة ثابتة من سمات الصيني كما هي ليست سمة ثابتة من سمات أي شعب ولكنه الانصياع الذي يوازي "الارتضاء" والناتج عن إحساس الفرد  بأن من يقوده يمثله طالما كان يشعر بالتحسن المضطرد لنوعية حياته والذي يجعل من التمرد على السلطة أو النظام العام  يلحق الضرر بالمصلحة الفردية والعامة...لم تؤد أعمال الاحتجاج التي قام  بها الشباب الصيني في ساحة "تيانمن" في العاصمة بكين  إلى تطور قوة صينية سياسية تناضل من اجل سيادة النمط الغربي من الديمقراطية  في الصين بل رأينا الظاهرة تقبر بعد بضع سنوات. والسبب هو أن التطور المضطرد للاقتصاد الصيني قد أدمج الفرد الصيني في عملية كبيرة للتحدي من أجل البناء الذي انعكس إيجابا على حياته. ومن النماذج الأخرى للانصياع هو النموذج الياباني حيث كان الفرد بعد هزيمة بلده في الحرب العالمي الثانية وتعرض مدنه للدمار خاصة ما تعرضت له هيروشيما وناكازاكي بفعل الضربة النووية الأمريكية يقف ساعات في الطابور بانتظار الحصول على رغيف خبز بسبب التقنين في المواد الغذائية...

 

لا أدعوا من خلال هذه الأمثلة إلى إقامة  "دكتاتورية رشيدة" تقود الشعب نحو بناء نفسه على الطريقة الصينية أو الكورية لأني أعرف أن ذلك مستحيل في الحالة العراقية بل هو تسليط الضوء على المفارقة المحزنة التي تتمثل في أن من يتمرد على سلطة الدولة والقانون في بلد بدا يشرع للتو يحاول شق طريق له نحو النمو السياسي والاقتصادي على أسس  تعتمد الانصياع الاختياري للناس( بسبب أن من يحكمهم هم اختاروه) هم الطبقة السياسية قديمها كما هو السيد مسعود وحديثها كما هو ممثل بالعديد من القيادات السياسية ابتداء من طارق الهاشمي  وانتهاء بظافر العاني وحيدر الملا وأحيانا عناصر من قيادة التحالف الوطني. كل هؤلاء هم جزء من سلطة يعملون على إضعافها ضاربين للعراقيين مثلا سيئا بالخروج عن القوانين والأعراف الدستورية والقانونية والتي لا ديمقراطية بدونها.

 

 ولا شك أن التشكيلة السياسية الحاكمة هي نتاج الاختيار الشعبي وأن هذا  الاختيار هو انعكاس لدرجة ثقافة  المواطن ومدى امتلاكه لحريته وهي الحرية التي تقوم على القدرة على التجرد من الانتماء المذهبي والقومي والديني ( وحتى الحزبي في حالات معينة) في عملية اختيار من يمثله. إن أزمة الطبقة السياسية هي في إحدى معانيها أزمة الشعب أو بالأحرى أزمة الثقافة التي يحملها ذلك الشعب. والثقافة العراقية التقليدية دائما ما ارتبطت بالولاء للعشيرة أو المذهب وقد مرت هذه الثقافة بمراحل من الأفول ثم الانبعاث إذ مرة تخبو وتبدو أنها في طريقها إلى الزوال ثم لتعود مرة أخرى لتطل برأسها بل تكون أحيانا هي السائدة. لقد انحدرت ثقافة العشيرة والعائلة إلى أدنى مستوى لها عشية قيام ثورة 14 تموز و لا شك أن الحزب الشيوعي، ومن خلال نفوذه الكبير في أوساط المثقفين، لعب دورا ملحوظا في إضعاف هذه الثقافة وكذلك في نهاية السبعينات والسنوات الأولى لحكم البعث حيث كان يطبع الوضع الداخلي الصراع بين البعث والحزب الشيوعي والوضع الدولي الصراع بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي الأمر الذي أزاح  هذه الثقافة إلى الصفوف الخلفية ولكن يبدو أنها ظلت كامنة في النفسية العراقية ثم لتبرز في أقوى صورها في منتصف التسعينات وما بعدها بعد أن عمل صدام حسين على إحياءها كبديل للمشروع البعثي المنهار والذي صاحبه انهيار النموذج الشيوعي بفعل انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينات.

 

 أقول ذلك وأنا واع بأن ما أطرحه يضعنا في مأزق.  فإذا كان تدني الثقافة الشعبية (ومنها معيار الاختيار) أنتجت المعادلة السياسية القائمة فلماذا نلوم الطبقة السياسية طالما كانت انعكاسا لهذه الثقافة (كما تكونوا يول عليكم)؟  في مواجهة هذه المعادلة الصعبة و المحزنة  لا أجد  ملجأ ألوذ به كي أحافظ على ومضة من الأمل غير أن أطرح معادلة "الثابت والمتحرك"  فأقول أن الرأي العام الشعبي هو في حالة حراك أو صعود من أدنى إلى أعلى نتيجة تراكم التجربة والتي تجعل من المواطن أكثر معرفة بالسياسات العامة وبسياسة  الكتل، و أكثر معرفة بالأشخاص الذين يمارسون السياسة، وأكثر إدراكا لحيلهم بينما يتميز موقف "النخب"السياسية بشكل عام بالثبوت من حيث أن  الحفاظ على مصالح دائمة (ثابتة) لهم في المعادلة السياسية هو همهم الشاغل...

 

وتفتقد النخب السياسية على المستوى التشريعي ( مجلس النواب) الحد الأدنى المطلوب من الفهم الذي يجعل منها مؤهلة لأن تمارس دور الرقابة والتشريع (وهي المهمة الأساسية التي وجد من أجلها المجلس)  ألا وهو الفهم الذي يتجسد في حقيقة أن البرلمان حالما يتشكل يصبح سلطة قائمة لذاتها لها وظائف محددة وأن أعضاءه ملزمون بالقيام بهذه الوظائف حسب التفويض الذي حصلوا عليه من الناخبين أي أن الولاء للحزب أو الكتلة لا يصبح هو المقرر لسلوك عضو البرلمان بل العمل مع الحكومة من أجل نجاح برنامجها الاقتصادي والاجتماعي الذي طرحه رئيسها في أول جلسة للتصويت على منح الثقة للوزارة المشكلة. ومن حق عضو البرلمان أن يستغل المجلس لتعزيز مكانة كتلته أو حزبه في أنظار الجماهير التي تراقب عمل مجلس النواب وذلك من خلال طرح وجهة نظر كتلته في القضايا التي تتعلق بالتشريعات والرقابة وليس من خلال عرقلة عمل الحكومة التي صوت غالبية أعضاء المجلس بالموافقة على تشكيلتها على ضوء البرنامج الذي طرحته من أجل التنفيذ...

إن واحدة من أبشع مظاهر العمل البرلماني العراقي هو اعتقاد العديد من البرلمانيين أن تعطيل عمل الحكومة سوف يحرم رئيسها أو حزبه أو كتلته من الأصوات المؤيدة في الانتخابات القادمة وأن هذه الأصوات سوف تذهب لهم.  و لا يمثل ذلك منتهى الأنانية والعمل ضد مصلحة الشعب وحسب بل ودرجة عالية من "الخرف السياسي"...ويواصل أمثال هؤلاء لعبتهم الخاسرة غير آبهين بالنتائج الكارثية عليهم وعلى أحزابهم وعلى العراق كله والتجربة السياسية برمتها...

 

لقد شهد اعراق بعد 2003 تجربتين برلمانيتين وكان من المؤمل أن تعكس التجربة البرلمانية الثانية درجة أعلى من النضج السياسي لدى النخبة خاصة وأن الكثير من أعضاءه، بل ربما أغلبهم، قد شارك في البرلمان الأول ويفترض أنه كون تصورا عن طريقة عمل البرلمان لكن ذلك لم يحصل وما رأيناه في البرلمان الثاني أكثر فداحة مما رأيناه في الأول ويبدو أن روح العمل الديمقراطي لا تزال غريبا عن الشخصية العراقية. إن تجرب العمل البرلماني في العالم المتحضر معروضة أمام البرلمانيين العراقيين ويمكنهم متى شاءوا أن يتعلموا منها ولكن "على من تقرأ مزاميرك يا داود"؟

...

في كل مكان في العالم يمثل رئيس الوزراء رمز سلطة الدولة وأن مواجهته في حرب إعلامية معلنة لا يمكن اعتبارها مواجهة مع سياسي بل مع الدولة نفسها...أنها عقلية التقوقع ضمن إطار الكانتون الجغرافي (السيد مسعود) أو الكانتون الحزبي الضيق  والذي يعكس نفسه في عدم الاستعداد للرضوخ لدولة يحكمها نظام ...ومهما حاول رجال الكانتونات تصوير الصراع على أنه مع شخص مرة يصفونه بأنه دكتاتوري وأخرى متفرد وغيرها من الصفات إنما يخفون حقيقة أنهم يحملون عقلية أن الدولة، التي يجب أن تكون كيانا تتمتع باستقلالية ولو نسبية، يجب أن يتكون مسخرة لخدمة مصالحهم  وإن رئيس الوزراء إذا امتنع عن تسخيرها لخدمتهم  يجب أن يستبدل و لا يهم في ذلك الأطر الدستورية والإرادة الجماهيرية...

 

 أن الخروج على سلطة المركز لا يقل في الأعراف الديمقراطية عن العصيان سلطة الدولة وسلطة القانون وقد ذكرت في مقالة سابقة أن تعريف الخيانة الوطنية في الدستور الفرنسي يشمل عصيان قرارات الجمعية الوطنية (البرلمان)

وهكذا أصبحنا في مواجهة حالة يكون فيها من يخرق قوانين دولة لا زالت في طور التأسيس هم السياسيون وهذا يطرح مشكلة خطيرة فإذا كان السياسي لا يريد الالتزام بالقوانين ويحول كل مظهر من مظاهر الخلاف إلى صراع سياسي مع السلطة التنفيذية وراسها فكيف يمكننا والحال هذه أن نطلب من المواطن أن ينصاع للدولة وقوانينها؟ أنا لا أجد فرقا بين من يحمل السلاح ضد الدولة ومن يريد إخضاعها لمصالحه فكلاهما ينطلق من نقطة الرفض.

 

إن صراع المالكي كرمز للدولة مع مسعود البارزاني أو غيره هو في حقيقته ليس صراعا شخصيا بل صراع بين من يريد تثبيت أركان دولة قوية في داخلها ومحيطها وآخر لا يريد لهذه الدولة أن تقوم بل أن تصبح أداة تخضع للمصالح والأمزجة. ويمثل إيواء طارق الهاشمي المطلوب للعدالة اسطع تجل لعقلية السياسي الذي لا يريد أن يحكمه قانون الدولة بل "قانون صدام" الذي يتمثل بمقولته المشهورة: "ما هو القانون؟ أنا أكتبه وأنا أشطبه !!"

لم يمت صدام بل هو حي في عقول وأرواح الكثيرين الذين يزعمون أنهم ظلموا منه  ولا يقف السيد مسعود وحيدا بين أقرانه فقد سبقه السيد علاوي وينضم إليهم أناس جدد مع كل يوم جديد...

فهل سيتمكن الشعب العراقي بعربه وكرده أن يوقف من استهانوا به عند بوابة الخراب العظيم؟

لست كثير التفاؤل فقد تلاعب زعماء الغرب بنتائج الانتخابات حتى في أعتى الديمقراطيات...

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2109 الخميس  03 / 05 / 2012)

 

في المثقف اليوم