أقلام حرة
ما معنى أن يكون الإنسان ملحدا؟! / زكي السراجي
يتمرد على الغيب بأن يلحد منظومته في ظلمة الأنا، فيكون مبدأ المنظومة (الأنا) وغايتها (الأنا) سواء كانت هذه المنظومة قيمية أو منظومة عملية، وهذه المنظومة القيمية والعملية تجتهد في أن تبتعد عن أي لون من ألوان الارتباط بالجانب الغيبي للخلق، فهي دائبة على نفي الغيب والإعراض عنه في كل مفردات الحياة حتى القهرية منها التي لا سبيل فيها لإنكار الغيب وهو قضية الموت والحياة!!
وواقع هذه المنظومة القيمية والعملية التي تستند إلى وهم المخلوق بدءا وغاية ليس جديدا بل هو قديم قدم ابن آدم على هذه الأرض، وهذه المنظومة بدأت تتشكل منذ الامتحان الأول للخليقة الذي بينه الحق سبحانه بقوله{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(الأعراف/172) فهذا الامتحان كان الفيصل والبيان بين منظومتين قيميتين وعمليتين وجدتا بوجود الخلق، منظومة تستند إلى الإقرار بربوبية الغيب، وأخرى تستند إلى الإقرار بالغفلة عن ربوبية الغيب وإقامة ربوبية الأنا مقامها.
وعلى الرغم من أن الآية الكريمة تكشف عن أن الجميع أقر بربوبية الغيب بدلالة الجواب (بلى شهدنا) ولكن هذا الإقرار تنكشف حيثياته في الوجود في ساحة الامتحان على هذه الأرض فيتبين حقيقة التحذير الإلهي الوارد في ختام الآية الكريمة (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) ولعل المتدبر يسأل عن المشار له بـ(هذا) في الآية الكريمة ؛ من هو؟!
ولو عدنا إلى مبدأ الآية كان السؤال (ألست بربكم) ولم يكن السؤال (ألست ربكم) فربوبية الغيب ثابتة لا مجال لإنكارها حتى مع المنظومة التي تدعي ذلك الإنكار وتسمي نفسها (إلحادية) فهذه المنظومة تقر عمليا أنها لا تملك لنفسها موتا ولا حياة فهي مقهورة بذلك وهذا الإقرار دليل إذعان أنها ليست أكثر من منظومة مكابرة وإنكار للشمس في رابعة النهار، ومدار الامتحان هو ليس في إنكار هذه المنظومة أو اقرارها، بل حال هذه المنظومة (الملحدة) كاشف عن ثمرة الغفلة التي أوقعت البشرية نفسها بها عندما أنكرت شهادتها للمشار إليه بأنه رب.
ولرب سائل يسأل : إذن أي ربوبية تم إنكارها وإلحادها؟! ومن هذا السؤال ينطلق البيان القرآني ليكشف عن أن تلك الربوبية المنكرة هي الربوبية التي امتحن الله سبحانه بها خلقه من الملائكة والجن وهي ربوبية آدم(ع)، قال تعالى{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة/30) كونه خليفة لله سبحانه منصباً منه وبإذنه لإدارة ملكه سبحانه وسياسة عباده وصولا إلى الغاية التي من أجلها كان الخلق، وهذه الغاية هي واضحة بينة بقوله جل وعلا {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات/56) أي إلا ليعرفون ـ كما ورد ذلك البيان عن آل محمد(ص) ـ وكذلك يبين هذه الغاية من الخلق الحديث القدسي الشريف [كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف].
فالمنظومة القيمية والعملية المستندة إلى الغيب حددت غايتها ومنطلقها وإجراءاتها في العمل، وكان هذا واضحا منذ الخليفة الأول على الأرض وهو آدم(ع)، ولكن ماذا فعلت البشرية؟! آلت على نفسها إلا أن تفعِّل (الغفلة) وتشرع في الاعراض عن الرب الذي شهدت له بالربوبية وأقرت له بذلك (قالوا بلى شهدنا)، وهذا الرب المقام والمشهود بربوبيته هو المنهج والكيفية والمنظومة التي أقيمت بشخص استحق أن يكون قائما بها مؤديا لها على حسب ما أراد الحق سبحانه.
فكانت اولى صور الإعراض والإلحاد ما فعله قابيل بن آدم مع أخيه هابيل(ع) الرب المنصب من السماء بعد أبيه آدم(ع)، فلما سمع قابيل أن هابيل(ع) هو خليفة أبيه آدم(ع) وهو رب الأرض بعد أبيه جن جنونه وغفل تماما عن العهد المأخوذ في الامتحان الأول وأعلن التمرد، ولم يواجه الرب سبحانه هذا التمرد بالقمع بل واجهه بالحجة والبرهان التي كشفت حقيقة ما انطوت عليه نفس قابيل الإلحادية، وحقيقة ما انطوت عليه نفس هابيل(ع) المشرقة بنور ربها سبحانه، قال تعالى{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(المائدة/27).
حري بكل الخلق على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومشاربهم الفكرية أن يقفوا عند هذا الموقف ويتفحصوه ويدققوا فيه لينظروا هم اليوم في أي طرف يقفون، ولينظر أولئك الذين يهرولون خلف المصطلحات ؛ خلف ماذا يهرولون؟! حيث كان الامتحان بالقربان ميزانا الهياً يكشف حقيقة الطريقين، والمتدبر بالحكمة الإلهية يعرف لماذا كان الامتحان والبيان بالقربان؟ فبعد اعتراض قابيل على تنصيب هابيل(ع) خليفة لله على الأرض بعد أبيه، حاول الأب المفجوع بهذا الموقف المخزي من قابيل أن يبين لابنه الكبير قابيل أن أمر التنصيب والتعيين ليس بيده هو بل بيد من نصبه وهو الرب الحق سبحانه، ولم يكن هابيل(ع) مهموما بهذا الأمر بل تقبله له كان تقبل المسلِّم لأمر ربه جل وعلا، فأراد قابيل بينة على ذلك، وطلب قابيل هذا كشف عن فقدانه الثقة بمربيه وربه المباشر له وهو ابوه آدم(ع)، فجاء الرد على هذا الطلب من الغيب لتفتضح نفس قابيل الشحيحة وليستبين سخاء نفس هابيل(ع) ولننتبه إلى الميزان وحقيقة نفس المنصب خليفة لله سبحانه، فكان أن قدم قابيل وهو الذي يملك الزراعة آنذاك سنابل تالفة من زراعته، ولاشك في أن هذه الصورة فضحت تلك النفس الشحيحة حتى مع واهبها سبحانه.
وجاء هابيل(ع) بأفضل ما لديه ليقدمه قربانا وهو العامل بالرعي ليعبر عن سخاء نفس في العطاء وزهد في الامتلاك، فكان أن استبان الميزان الحق في اختيار الرب الممثل للرب الحق سبحانه على الأرض فثارت ثائرة الحقد في نفس قابيل وأغلق على نفسه كل سبل العودة إلى الغيب الحق فمضى في الغفلة إلى ثمرتها وهو الاقدام على قتل أخيه وإزهاق روحه ليقول بفعله بعد أن قال بقيمه أنه قادر على أن يفعل فعل الرب فيميت، ولا طاقة للغيب على رده عن قراره ومن ثم فلا غيب ولا منظومة قيمية وعملية تقود الحياة إلا منظومته التي افادها من موقف معلمه الأول ابليس(لع) عندما واجه آدم(ع) بالأسلوب التمردي نفسه.
إذن أول مؤسس لمذهب الإلحاد على الأرض هو صاحب النفس الشحيحة في العطاء الشهوانية في الامتلاك (قابيل)، وأول من كشف عن ميزان اختيار الرب على الأرض بعد آدم(ع) هو هابيل(ع) السخي النفس في العطاء المسلم لأمر ربه سبحانه الزاهد فيما يملك، ولذا انظروا اليوم إلى الاسس القيمية والعملية لمنظومة الإلحاد ستجدونها قائمة على الشح في العطاء بجانبها القيمي، والشهوة في الامتلاك بجانبها العملي، فأشاعت سياسة القتل والتهميش والإقصاء، وعبثت بكل المقومات النفسية لشخصية الإنسان حتى افقدته إنسانيته فصار وجوده وجودا عبثيا قائماً على البحث عن إشباع شهوته في الامتلاك ولو بالقتل، يقابلها شح قاتل بالعطاء حتى أنه يرى سلب روحه أهون عليه من إنفاق ماله في سبل العطاء.
بعد هذا البيان البسيط لصورة من صور ما يصطلحون عليه اليوم بمذهب الإلحاد ويحاولون تسويقه إلى الناس من خلال منهج الاغراء في الطرح لتزيين هذه المنظومة القبيحة التي تجرد الإنسان من إنسانيته، لابد من الدعوة إلى البحث والتدقيق والفحص عن (هابيل) على الأرض قائم بأمر الله سبحانه يمثل نهج العطاء الإلهي في منظومته القيمية ويمثل نهج الزهد فيما يملك في جانب المنظومة العملي، ولا سبيل لإنقاذ البشرية من مأزقها الخانق اليوم إلا بالبحث عن هذا المنقذ الإلهي الذي تتجلى فيه المنظومة القيمية (الأخلاقية) والعملية الإلهية كي تتطهر باتباعه والعمل بين يديه من عوالق الشح الاخلاقي والشهوة العملية التي نزعت من البشرية إنسانيتها وجعلتها ـ أجل الله القارئ ـ كالبهائم لا هم لها سوى نثيلها ومعتلفها!!!
تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2109 الخميس 03 / 05 / 2012)