أقلام حرة

تراجع مكانة المبدعين في الزمن الديمقراطي / قاسم حسين صالح

ذلك أن النظام الدكتاتوري يرغم العقل المبدع في خدمته. ولأن شخصية المبدع تنفر من الاتجاه التلسطي فأنه اما أن يستجيب دفعا للشر، أو يعيش حالة اغتراب عن نفسه والوطن قد تدفع به الى الانتحار، أو  يهاجر الى بلد يحترم شخصه ويقدّر ابداعه. ومن يتأمل واقع العقول العراقية المهاجرة يجد انها أنشأت جامعات وكليات في دول عربية (الخليج، اليمن، ليبيا، الجزائر..)، وأسهمت في تطوير دول أوربية، وقدمت لمجتمعاتها خدمات تتطلب ابداعا..اذ يذكر خالد القشطيني أن الأطباء الموجودين في بريطانيا لو عادوا الى العراق لتوقفت الخدمات في المستشفيات البريطانية!.

والواقع أنك حيثما ولّيت وجهك في بلدان العالم تجد العقل العراقي المبدع أمامك.. في كل مجالات المعرفة من الطب الى الشعر والفنون التشكيلية والفكر الانساني.ولك أن تفترض لو أنك عدت بنصفهم الى العراق، وخصصت لهم (اقليما).. لتوقفت الدعوات المطالبة بانشاء أقاليم ..ولتوحدت فيه..لأنهم سيجعلون من (أقليمهم ) جنة!.
 والمفارقة ان زمن الديمقراطية فشل في اعادتهم كما فشلت الدكتاتورية، مع أن الدكتاتورية شرّعت لهم قانونا بأسم (الكفاءات) كان مجزيا ماديا..وقد عادوا للعراق فعلا لكنهم اختنقوا ..فتركوا ما منح لهم من مكافئات  (قطع أراض، سيارات..) ورجعوا لبلدان الغربة التي رحبت بهم ثانية! رغم انهم تركوها ليحققوا حلم الوطن، لأن هذه البلدان تدرك ان تطور الدولة وتقدم المجتمع يعتمد على المبدعين في العلم وفنون المعرفة.

والمؤسف ان ديمقراطيتنا فشلت ليس فقط في تهيئة الأجواء لعودة المبدعين، بل أن الموجودين منهم داخل الوطن صاروا بين من أخمد صوته كاتم صوت، او من اختار ان يجاهر بالحقيقة حاملا كفنه على يديه، او من سار على خطى المهاجرين من قبله.

والمؤلم أن الباقين منهم تراجعت مكانتهم الوظيفية.فمعظم المراكز الوظيفية الرئيسة بمؤسسات الدولة تسند لا على أساس الكفاءة العقلية بل الانتماء الحزبي فيما المبدعون المستقلون لا دور فاعل لهم على صعيد السلطة التنفيذية، وهذا أحد أسباب سوء الأدارة وشيوع الفساد بأنواعه الثلاثة السياسي والمالي والأداري بحالة تثير الخجل أن يحتل العراق  الديمقراطي! المراتب الأولى بالفساد بحسب منظمة الشفافية العالمية.

وكما جرى في النظام الدكتاتوري باسناد عمادات الكليات في الجامعات الى المنتمين لحزب السلطة، فان هذه العمادات ورئاسات الأقسام العلمية اسندت غالبيتها، في الزمن الديمقراطي، للمنتمين الى الأحزاب الأقوى في السلطة من حديثي الخبرة، فيما الأكاديميون المبدعون يكاد دورهم يكون مهمشا.ولهذا السبب فان الجامعات العراقية، باستثناء جامعة الكوفة، احتلت مراتب متأخرة في سلّم التقويم العالمي للجامعات.

وما يحز بالنفس،  تراجع القيم الأخلاقية بحق المبدعين ايضا.فقد شكا أكاديمي معروف بابداعه وخرّج اجيالا أنه حضر مؤتمرا علميا فأجلسه طالبه الذي صار (دكتورا) في الخط الثالث فيما طالبه هذا جلس بالخط الثاني..لأنه يعمل بمكتب معالي الوزير.وأن مدير مدرسة من جيل المبدعين طرق كل ابواب وزارة (الـ...) من أجل نقل ابنته لمكان قريب من مسكنه..وعجز، فنقلها شاب يعمل في " ميليشيا" أحد الأحزاب..بيوم وليلة.  فضلا عن ان ثقافة القبح جعلت ثقافة الأبداع في الموسقى والمسرح والفن والشعر تتراجع داخل الوطن بمسافات عما كانت عليه قبل خمسين سنة!

ان الابداع صار اليوم هو المعيار لتقدم المجتمعات وتفوق الدول.فالدولة الأكثر احتراما لمبدعيها وتوفيرا لفرص توظيف ابداعهم بخدمة المجتمع، هي الأكثر تطورا وتحقيقا لحياة كريمة لمواطنيها.وما يحيرك أن تراجع مكانة المبدعين في زمن الدكتاتورية كان أحد أسباب انهيارها، وأن الديمقراطية التوافقية لا تلتقط العبرة ولا تدرك ان المبدعين في العراق طاقة هائلة في الاعمار..والانهيار ايضا!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

رئيس الجمعية النفسية العراقية

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2116 الخميس  10 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم