أقلام حرة

ظواهر تثير الشوق وتوقظ الرغبة في تكرار الزيارات لباريس / حميد طولست

كنت أشعر خلال الأيام الأثيرة التي كنت أقضيها في ربوعها بسعادة عارمة، وأخرج مشمولاً منها، كالكثير من زوارها، بسخاء كبير من الذكريات، وزخم جم من الأحاسيس والعواطف الجميلة، كيف لا وهي منبت للشعراء والمفكرين والمؤرخين والأدباء والإعلاميين والفنانين وذوي التخصصات النادرة في الطب والتجميل والهندسة والاقتصاد وأشياء أخرى عديدة لافتة تثير الشوق وتوقظ الرغبة في تكرار الزيارات الواحدة تلوى الأخرى لاكتشاف المزيد مما لازالت تخبئه في أرضها ومتاحفها وبين ناسها الآسرين لمن أقام فيها، وحتى من كان عابر طريق من خلالها إلى غيرها من المدن الفرنسية الأخرى، الفاعلة والمتفاعلة مع مستجدات العصر والمتأثرة بوقع تطوراته على الحياة بكل نواحيها ومستوياتها ومظاهرها العامة والخاصة، والكثير من القضايا المثيرة والمحققة للتفرد والخصوصية وانعكاساها بالأجمل والأروع على ساكنة تلك المدن وشوارعها التي أصبحت أراضا خصبة لتعدد الأساليب وتنوع الأفكار وتجدد الصرعات في كل الميادين والمجالات حتى تلك التي لا تخطر على بال كظاهرة التسول مثلا-التي لفتت انتباهي أثناء زيارتي لهذا العام- بصخبها وأخلاقياتها، أو بالأحرى قواعده، وحتى عابريها ومتسوليها الذين يصعب الربط بين زيادة أعدادهم وتعدد أساليبهم، وبين تدني مستويات المعيشة، ويسهل إيجاد علاقة قوية بينهم، وبين منظومة متكاملة من تفشي ثقافة الكسل والطمع، والرغبة العارمة في الحصول على المكاسب بأقل مجهود ممكن، والذي دفع بهم إلى أعادة طرح أنفسهم بـمظاهر جديدة و"لوك" مختلف ومبتكر يشمل منظومة عالم التسول بكاملها ويُخضعها للعديد من المتغيرات، شأنهم في ذلك شأن بقية مناحي الحياة الباريسية، والتي يمكن القول عنها، وبدون مبالغة، أن رصدها، هو رصد للحياة الثائرة بها –بشكل عام- على كل القوالب التقليدية والمظاهر العتيقة للكثير من السلوكات المتخلفة التي كانت مسيطرة على كثير من المدن الأوروبية منها، والتي على ما يبدو، قد تغيرت جذريا، حتى بالنسبة للمنظومة الفكرية لعالم التسول المثير، حيث أنه وبدلاً من الابتزاز العاطفي الكلاسيكي للمارة ومرتادي المقاهي وراكبي المترو وRER  وسائقي السيارات، الذي اعتمده التسول البدائي، الذي كان يتناسب مع بدائية المجتمع الذي يتحرك فيه من خلال أسلوبه البائد الذي كان منحصرا في المظهر الرثّ المتمسكن الفاضح لملامح البؤس والشقاء واستعمال العاهات الاصطناعية والملكات الدرامية في تمثيل شخصية الذليل البائس الذي تحالفت عليه مصائب الدهر وتقلباته، واعتماد القدرات البلاغية والصوتية لاستعطاف المارة من الناس في إلحاح ذبابي مقيت بترديد أناشيد المتسولين المعروفة الكلمات المسجوعة أو المنظومة العبارات الممزوجة بالكثير من أدعية الشكر وطول العمر ووفرة الصحة والخلف الصالح، لإثارة شفقة الناس الذين يترصدون أثناء تجوالهم على قارعة الطريق، أو بين الأزقة والدروب أو بطرق أبواب الدور والمحلات أو بالقوف عند إشارات المرور والأسواق لإشباع الجشع الغامض الكامن في دواخلهم.

لكن ومع ما عرفته المجتمعات من متغيرات اجتماعية واقتصادية، فكر أصحاب الفكر التسولي المتجدد وحملة بيارقه في هذه المدينة، وخاصة بعدما رؤوا أن حيلهم البالية لم تعد تنطلي على أحد، ووجدوا أن تضرعاتهم المكرورة لم تعد تُصدق ولا تثير شفقة المحسنين وتعاطفهم الذي انكسرت، فكان لابد من تطوير مهنة التسول، إن صح التعبير، وجعلها لا تتخلف عن مواكبة التطور المهني، بالسعي الحتيت  لتجديد سبلها وابتكار الأساليب المتطورة التي تجعلها يتخذ أشكالا عدة ومتنوعة تتماشى وثقافة وعادات تلك المجتمعات الراقية التي أضحت تنفر من الابتزاز العاطفي التقليدي المستفز، وتعوض بابتزاز لطيف يعتمد على المظهر المهندم والتصرفات الراقية والملامح البشوشة، حتى يتناسب مع ما تعرفه المجتمعات من متغيرات اجتماعية واقتصادية وتتواكب مع آخر ما وصل إليه العالم من تطور، وينالها ما نال غيرها من المهن من التطوير والابتكار، حتى أصبحنا أمام أساليب وسيناريوهات مبتكرة للتسول في خلط كبير وواضح بين قيمتي الذكاء والنصب المتلائمة والمتماشية مع مستجدات ومتغيرات البيئة الحياتية المحيطة، والتي يبقى البطل الحقيقي فيها هو الضحية صاحب النخوة والرجولة الذي يقع ضحية شراك هذا المتسول أو مصيدة ذاك المتماهين جميعهم مع الجمود النسبي الذي يعتري أجهزة مكافحة التسول الاحترافي المساير لكل ما يعرفه عصر تكنولوجيا المعلومات، والملتحق بثورته الرقمية والمستعمل لأدواتها المتطورة ووسائلها الجهنمية، التي لم تسْلَم من انعكاسات موجات تجديد منهجياتها لمسايرة عالمها، من خلال الإعلانات الشخصية المبتوتة عبر شبكة الانترنت لغرض التسول، إلى درجة أصبح معها المرء لا يفاجأ ممن يطلب منه عبر "الإمايل" أن يحول له دريهمات قليلة من رصيده لجهازه المحمول لفك ضائقة طارئة، مع وعد منه بإعادتها إليه بالطريقة ذاتها بعد يوم أو يومين، وغدا أمر حصول بعضهم على أرقام هواتفنا أو عناويننا إلكترونية، وإرسال لبعضنا "مساجات" رسائل يستجدون من خلالها المساهمة في علاج طفل مريض، أو إعالة أسرة فقدت عائلها عبر إيداع مبلغ مالي في رقم حساب مصرفي معين، شيئا عاديا لا يثير في الكثير منا لا العجب ولا التعجب. وقد تخصصت الكثير من المواقع الالكترونية الشخصية في التسول كما هو حال الموقع الذي أطلقته "كارين بوسناك" والتي قالت فيه: "كل ما أحتاجه هو دولار واحد من عشرين ألف شخص.. أو دولارين من عشرة آلاف.. أو خمسة دولارات من أربعة آلاف شخص!" وهذا لا يعني ان الكثير من أصحاب هذه المواقع في حاجة إلى المال أو هم عاجزون عن العمل، بل هو نوع من الخداع والدجل والتضليل والكسب غير المشروع بهذا العمل المشين المستفيد من تقنية الإنترنت لجمع الأموال بدعوى القيام بمشاريع خيرية -لإطعام الفقراء وكسوتهم وتسكينهم وتشغيلهم وتزويجهم وتعليمهم وعلاجهم- التي لا تدخل ضمنها حتماً العمل الخيري الذي يستغله بعض محترفي التسول باصطناع الوجوه المستحية العفيفة التي لم تذلّها الحاجة، للإيقاع بأصحاب الجود والكرم والقلوب المتعاطفة، عن طريق النصب والاحتيال بكل تجلياته سواء البلية العتيقة منها، أو تلك التي عرفت التطوير والجدة .

 

حميد طولست

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2121 الثلاثاء  15 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم