أقلام حرة

خطابات السياسييــــن من يكتبها.. ؟ / صبحة بغورة

ومستعد للتضحية بالجهد الإضافي والوقت لأداء ما يطرأ من مهام كأفضل ما يكون الأداء وللنهوض بالواجبات خير نهوض والوفاء الكامل بالالتزامات مع العلم أن بعضها قد يكون متوقعا حدوثه ولكن مجهول توقيته بدقة والبعض الآخر يمكن أن يتجاوز طابع المفاجأة وكأنه واقعة ليس لإرادة الانسان يد فيها، وفي الحالتين لا مناص من التعامل الجدي والسريع مع مقتضيات الحدث في شكل رد فعل يستوعب تداعياته سواء الايجابية أو السلبية على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وتكمن متعة العمل السياسي في تنوع أوجه التعامل مع أطراف متعددة تختلف فيما بينها باختلاف المنطلقات التي تشكل مع مقدار الخبرة المكتسبة من التجارب العملية جملة العقائد والمذاهب التي ستحدد فيما بعد أنماط التفكير وستتحكم بشكل حاسم في السلوك وبالتالي في الاتجاه السياسي الذي يسلكه هذا أو ذاك .

متعة العمل السياسي أنه يتعامل مع قضايا تمر بظروف متقلبة وتعرف مراحل تتراوح بين متعة التغير المستمر والاستمرار المتغير بمعنى النمطية المتجددة، وفي كل حالة تبرز من ثناياها معطيات جديدة قد تكون ذات طبيعة انقلابية على ما سبقها أو تكون متممة لما قبلها وعلى كل الأحوال سنكون أمام أوضاع مغايرة بمفاهيم أخرى ستتطلب وضع أساليب عمل جديدة، وأدوات أخرى للتحكم في مستوى هذا التعامل وضمان دقته، ولأجل ذلك يجب توفرعدة عوامل منها الإلمام الكافي بالأبعاد التاريخية لقضية ما ومستجداتها الحالية وتداعياتها الممكنة وانعكاساتها المحتملة على مختلف الأصعدة، وجملة هذه العوامل ستساهم إلى حد كبير في بلورة الموقف السياسي منها سواء بالتأييد والدعم والمساندة أو برفض التعامل معها والاعتراض عليها أو باتخاذ موقف محايد منها، وغالبا ما يكون شكل التعبير عن هذه المواقف هو الشكل الخطابي السياسي الجماهيري أو البرلماني المباشر أو غير المباشر كالبيانات التي تبثها وسائل الإعلام كالتلفزيون والإذاعة والانترنيت وغيرها .

إذا كان معلوما للعام والخاص حجم العمل الهائل والمتشعب ـ المعقد في أغلب الأحوال ـ المنوط به أعلى هرم السلطة السياسية في أي بلد من المعمورة جاز لنا تصور العدد الكبير من العاملين المقربين من السلطة السياسية من مساعدين وخبراء ومستشارين ومديري إدارات ورؤساء مصالح .. الخ كل يعمل في مجال تخصصه في إطار منظومة عمل معينة تخضع لتوجيهات عليا محددة تترجم سياسة الدولة الداخلية والخارجية، ولعلنا نجد من بين المقربين من أهل الثقة شخصا وربما أكثر يوكل إليهم كتابة وصياغة وتحرير الخطابات السياسية التي سنراها حتما تختلف في طبيعة أفكارها ومفرداتها المستعملة باختلاف المناسبة وأيضا على حسب الموقف السياسي منها، وهي في أدنى مستوياتها مثلا قد تتصل بالتهاني المتبادلة بمناسبة الأعياد الوطنية والدينية، فالمستوى الذي يبلغه مستوى العلاقات بين دولتين قد يتراوح بين "المتميز" و" الممتاز " والجيد " و" العادي " وبين الفتور والبرودة أو حتى العداء الخفي منه والمعلن وكلها اعتبارات على درجة عالية من الأهمية وقدر كبير من الحساسية لارتباطها بفرضية وجود علاقات تعاون ثنائي بينهما من عدمه، وعليه سيكون لزاما على كاتب الخطاب الوقوف بدقة على هذه الاعتبارات وعلى المسموح له الاطلاع عليها من ظروف محيطة بها لصياغة عبارات محددة لتبليغ رسالة ذات مغزى تتصل بموقف معين أو أكثر، وقد يكتسي الأمر في حينه طابع السرية ـ ولو مؤقتا بما أنه سيعلن عنه فيما بعد على الملأ من خلال الخطاب، ومع ذلك فهو قد يحمل ما لا يجوز الكشف عنه مسبقا إلا عندما تحين المناسبة وفق تقدير السلطة السياسية حتى لا يكون محل استثمار أو بالأحرى استغلال من الخصوم، كما أن دقة التعبير وصدقه عن أفكار القيادة السياسية تستلزم قدرا كبيرا من الثقافة بوجه عام والثقافة السياسية بوجه خاص وتحكما أكبر في اختيار المفردات بعناية فائقة وصياغة العبارات صياغة محكمة، فالمواقف التي تحسم أمرا سيتم التعبير عنها بكلمات جازمة تفيد معاني مباشرة ولا تقبل الـتأويل، في حين نرى خطابات السياسية أخرى يقصد من ورائها تمييع قضية ما عمدا أو تعكس حرصا على إرجاء الفصل فيها لعدم الإحاطة بعد بكل جوانبها أو لعدم اكتمال كافة المعطيات المتصلة بها والوسيلة في ذلك ستكون العبارات الدبلوماسية المطاطة التي يمكن تفسيرها على أكثر من نحو، وعليه سيكون على عاتق كاتب الخطاب مهمة شديدة الحساسية تكمن في مسؤولية صياغة الأفكار الرئيسية المملاة عليه بشكل يحقق الوفاء التام بها وبالأسلوب المناسب الذي يليق بجمهور المتلقين، فالخطاب السياسي الموجه لعموم الشعب من مواطنين بسطاء بعبارات معقدة وألفاظ لا يدرك معانيها سوى المتبحرين في علم اللغة لن يحدث الأثر المطلوب منه أي لن يحقق الصدى الجماهيري الواسع بالرغم من أنه قد يتضمن توجهات سياسية واقتصادية واجتماعية غاية في الأهمية لترقية حياة الشعب، وفي المقابل أيضا سيكون من دواعي عدم الاكتراث بل والسخرية توجيه خطاب سياسي في محفل دولي رفيع المستوى بأسلوب بلاغي هابط وبهزال فكري وبمستوى ثقافي مثير للشفقة عاجز عن تبليغ الرسالة وإيصال الفكرة، فاشل في تحديد الموقف والنتيجة أن تفقد البلاد مكانتها على الصعيد الدولي كعضو فاعل .

إن من ينوط بهم مهمة كتابة الخطابات السياسية يحبذ أن يكونوا ممن تولوا مناصب المسؤولية في السلك الدبلوماسي ومارسوا العمل السياسي، فمثل هؤلاء يدركون أكثر من غيرهم خصوصية التقاليد والأعراف الدبلوماسية، واسعي الاتصال والتواصل مع مختلف البعثات الدبلوماسية، مطلعين على النظم السياسية ومراكز القوى فيها، متحكمين بفعل الممارسة اليومية في سلوكهم وانضباطهم النفسي واتزانهم العصبي وسينعكس أثر ذلك بوضوح في صياغتهم للخطابات، ويمكنهم بنوع من التروي والحكمة لعب دور هام ومؤثر في طبيعة القرارات لأن موقعهم الذي يجعلهم قريبين من القيادة السياسية في اللحظة الحرجة تمثل لهم أكثر من غيرهم الفرصة المتاحة لتخفيف تأثيرات حدة توتر ناشئ عن ظرف سياسي عصيب يكون سببا مباشرا في إشاعة جو من القلق النفسي والاضطراب السلوكي المفضي إلى عجز عن التفكير السليم تكون نتيجته قرارات غير صائبة، أي أن كاتب الخطابات السياسية الذي يبدو للبعض على هامش بعيد عن مراكز اتخاذ القرار يمكنه من خلال تحيين تحرير الخطاب تغيير مضمون قرارات تم اتخاذها في ظروف سابقة متشنجة، فرويته التي قد يصادفها رفع لبس أو زوال أسباب التشنج تكون قد ساهمت في عدم حدوث أزمة أو على الأقل عدم تفاقمها .

إن حساسية منصب من يتولى صياغة وتحرير الخطابات السياسية تفرض عليه أن يتقبل بتفهم كبير جملة من الضوابط والقيود على سلوكه اليومي وتصرفاته سواء في مجال عمله أو علاقاته الاجتماعية خارج محيط العمل أو حتى في محيط أسرته، فالكم النوعي الهام من المعلومات التي أمكنه بحكم عمله الاطلاع عليها يضعه حتما تحت أعين السلطات الأمنية وليس بالضرورة أن يكون مبعث هذه المراقبة وجود مخاوف منه بل الخوف عليه فلا شــيء يسعد الخصوم وقوى المعارضة وأطراف أخرى خارجية من ربط علاقات وطيدة مع شخصيات يمثل قلمها المرحلة الأخيرة نحو إعلان السياسات والقرارات .. لذلك يرتفع سقف الهواجس إلى الشك والريبة في كل من يقترب منه خشية توريطه من حيث لا يدري في ما يسيء إليه وصولا إلى ما يضر بمصلحة البلاد .

ينبغي هنا التفريق بين كاتب الخطابات السياسية والناطق الرسمي، فالأول من جنود الخفاء بالنسبة للرأي العام الداخلي وحتى الخارجي، بينما الثاني هو الواجهة التي تنقل مواقف السلطة بالقدر الذي تراه مناسبا لوسائل الإعلام الوطنية والدولية من خلال لقاءات دورية أو طارئة تبعا لمستجدات الأحداث، وغالبا ما يتناول اللقاء تعليقا على موضوع واحد ثم يأخذ شكل الندوة الصحفية المصغرة للرد على أسئلة صحفيين معتمدين ومعلومين يدعون خصيصا لمثل هذه اللقاءات، على أن ما يجمع بين الشخصيتين هو الثقافة السياسية الواسعة وسعة الإدراك والحس الدبلوماسي وسرعة البديهة .. وإذا كان من الطبيعي أن لا يستشعر كاتب الخطابات السياسية تجاه الرأي العام بأي حرج طالما أنه استوفى الأفكار الرئيسية المراد صياغتها من قبل السلطة فان التاريخ السياسي يحتفظ للناطق الرسمي بعدة مواقف غاية في الإحراج وخير مثال نسوقه على ذلك ما كان من أمر السيد الصحاف وزير الإعلام السابق في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي حمل خطابه للرأي العام حول الوضع العسكري تناقضات صارخة مع حقائق الواقع والحقيقة أنه كان ينفذ أوامر بمحاولة طمأنة الشعب العراقي برغم تمام احتلال القوات الأمريكية للعاصمة بغداد فأصبح في الأخير مثار شفقة السياسيين وسخرية البسطاء، وهو نفسه الأمر بالنسبة للسيد إبراهيم موسى الناطق الرسمي باسم نظام العقيد ألقذافي الذي بقي وفيا لخطابه التطميني برغم سقوط النظام في يد ثوار المجلس الوطني الانتقالي الليبي واختفاء ألقذافي وعائلته ففقد بعدها كل مصداقية ولم يعد لظهوره النادر بين الحين والحين أي معنى .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2128 الثلاثاء  22 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم